الثلاثاء، 19 أبريل 2016

بكل لغات العالم أحبك





بقلم / أمل فتحى عزت

 لكل منا مفهومه عن الحب

 

المقدمة .
منذ نعومة أظافرى وقلبى متعلق بحب الوطن عندما تركت مصرى الحبيبة وأنا صغيرة وانطويت في براح الصحراء بليبيا طفلة متأملة فى هذا البراح أهاجر إلى عوالم كثيرة وأعود لأناجى حب بداخلى يربطنى بتراب الوطن ولما كبرت مع الأيام وكان عمرى ثمانية عشر عاما وجدتنى أهاجر من براحى ذات يوم إلى عوالم الصدقين والابرار والشهداء فلقد كان وقتها حيزنا المعرفى محدودا قبل انتشار ثورة الانترنت وبعيدا عن محك السياسة وزيفها كانت هناك قضايا انسانية تشغلنا كقضية بيت المقدس وشرف الانتماء للأوطان فاستوقفنى مشهد بسالة الكبار والصغار فى أحداث ثورة الحجارة فوجدتنى أعود الى البراح بحب فريد من نوعه بالنسبة لى وقد تعلق قلبى ووجدانى بكل ذرة تراب حول بيت المقدس وكل حجر عتيق فى هذه المدينة الحزينة التى صاحبتها من خلال صفحات التاريخ طويلا و انا فى هذا البراح أهاجر مع كل مُهاجر اليها ومهاجر منها منذ اقدم العصور وحتى تلك اللحظات وكل يوم كنت أهاجر اليها بهذا الحس أعود بعشق آخر خاصه وأنا أقرا على ضوء القمر معاناة شعب هذا البلد في عهود مختلفه منذ أن بناها داود عليه السلام وحتى ميلاد عيسى عليه السلام ومن براحى كل يوم كنت اعاهد أيام زكريا ويحيى ومريم وعيسى عليهما السلام وعانيت معهم وتأثرت بهجرتهم وبقصة اللجوء التى بدات بعيسى وامه عليهما السلام وحتى الآن ... وتربع حب القضية الانسانية  في قلبى على مر الأيام بعيدا عن اهواء الساسة  حتى أصبح عشقاً ولمَّا نضجت خواطرى مع الأيام وعدت إلى مصرى الحبيبه أحببت أن انقل قصة الحب هذه من خلال هذه السطور إلى أبناء وطنى وكل الوطن العربى وأن أقول بلغة جديدة أن اساس أى انتماء في الوجود بدايته الحب لعلنا نتعاون في زرع لغة الحب بشكل جديد هذا ما قصدته من خلال رحلتى مع هذه السطور عندما كتبتها في توسكانا ( بإيطاليا ) حيث براح آخر وغربه أخرى عام 2002 م ...وعدت إلى مصر من جديد احملها بين ضلوعى كأنها طفل جديد جاء إلى الدنيا يحتاج إلى رعاية و أن ينمو وسط الناس ليأخذ هوية و يبنى كيانا .
هذا كان مقصدى

لم أكن أصدق ما رأيت ولو كنت بوحت للناس بما رأيت لظن الناس بى الجنون أو قالوا تحلم لا لم يكن حلُماً ولم يكن جنوناً إنه شئ حق برؤى العين حق وبرؤيا القلب حق .. ربما وهبنى الله مشاهدة هذه الحكاية العجيبة لتكون عوناً لى على مواصلة الأيام ولكى ارتوى من حب لا ينتهى ووفاء يبقى في نفوس النبلاء وأنا التى كنت أظن أو كدت أظن أن الحب يأتى لمرحلة و نقول .. كفى فعمر الحب قصير .. هذه الأحداث علمتنى أنه مازال هناك رجل نبيل رقيق الحس و الوجدان و أن هناك هناك امرأة رقيقة الحس و الوجدان تحمل لواء رسالة وتنهض بأمة وأن هناك في الدنيا الأوفياء و المخلصين و المحبين ... وأن الخير فينا حتى قيام الساعة صدق رسول الله عليه و سلم و أن الأمل لم ينقطع ... رغم أننى و أنا أسير فى هذا الطريق كنت فى حالة ثورة على نفسى و على الناس و على متناقضات الحياة و ما تحمل من أعباء و مشاكل أحببت أن اختلى بنفسى وأن أمشى فمشيت بلا وعى و الأفكار و الهموم تتزاحم في رأسى فوجدتنى ضللت الطريق عندما انزلقت قدمى فى حفرة صغيرة أحسست بالألم ..وقتها استفقت من أفكارى ونظرت حولى فوجدتنى فى طريق ضيق يشبة الممر , حولى أشجار كبيرة , فلقد دخلت مدخل عزبة ريفية تبدو ساكنة وورائى عدة طرق لا أدرى ايها سلكت أحسست بالرهبة و كل شئ حولى ساكن و صامت وكأن كل شئ هجر المكان حتى الطيور و الهوام . فحاولت أن اقوم مسرعة و انا أعرج فقدمى تؤلمنى وواصلت السير كى أخرج من الطريق فمازال الوقت فى منتصف النهار وبعد مسيرة عشر دقائق سمعت صوت شقشقة كثيفة كأنها معزوفة منظمة واريج يفوح رويدا رويدا وأنا اقترب من الصوت و إذا بى أجد بيتا كان مختبئا وراء الشجر , لا هو بالقديم ولا هو بالجديد يظهر من وراء سور يلف المكان بقضبان حديدية .. أعجبنى منظر البيت و أحسست بدفئ غريب اتجاهه رغم أننى لم أدخلة ...ولكنى اندمجت مع الوانه التى ذكرتنى بالبيوت الدافئة الكلاسيكية في الروايات العالمية ومع ذلك فهو يحمل الطابع المصرى القديم مع لمسات خفيفة من ديكورات حديثة كأنة حدث به تعديل طفيف شىء غريب أن تشعر بهذا إلاحساس لمجرد اقترابك من هذا المكان و لكنى بعد فترة وجيزة وقعت عينى على شىء يشبة القبر إلا أنى لم اصاب بالزعر لست أدرى لماذا .. ؟
وكدت اشعر بالفضول لأرى وأتاكد من هذا فطفت حول البيت التمس باباً فلم أجد . كان السور وحدة واحدة فلاحظت بالتدقيق من وجود فارق ملحوم , وكأنه أوصد للأبد فأستندت بظهرى على الفارق الملحوم افكر بالعودة ولكنى احسست أن الحديد لان و انفتح الباب.. و استدرت لأرانى داخل المكان دون أن أدرى فوجدتنى أمشى إلى ركن الشىء الذى رأيته قبرا .. فكان حقا قبراً غريباً كأنه ركن للراحة ويعلو القبر سُرة صغيرة محفوظة داخل لوح زجاجى مكتوب تحتها ..
(من الارض المباركة للطيبين)
أحسست بزوغان بصرى و أنا أرى كأن رجل وإمرأة يجلسان فى ركن يهمهمان بحوار لم افهمه فلما أقتربت من الركن لم أجد شيئاً إلا أننى إحسست بإحساس التلاشى وكأنى أذهب هناك إلى حيث كان عالم هذه الآصوات وتحولت وكأنى لا أسمع ولا أرى ولا أشاهد إلا حياة اصحاب هذا المكان وهذه الكلمات التى كتبت من نور .


يا من عشت فى دنيا حبها حتى أصبح حبها أرضى و سمائى .. ومائى و هوائى و محياى ومماتى
يا حبيبتى .. كم أرثيك وليس لى إلا ذكرى أحيا بها .. و يحيا بها كل من أدرك هذه المعانى
عشت شطرين .. شطر فيه كالعدم .. والآخر أحيا فيه مع ذكراك و لكن ما حالت عدم رؤياك في أن أعيش معك كل اللحظات .. فأنت تسكنين الروح .. فالروح التى أحببتها لا تعرف إلا البراءة و الجسد الذى
لا ينتفض إلا لكرامة .. وحواس المرأة فيك تتغذى بالصفاء و النقاء .. سأظل هكذا بجانبك حتى افارق تلك الحياة .. أتيا اليك غاسلا كل ذنوبى بين يديك . مولوداً جديداً موهباً لهذه الحياة
فإلى اللقاء حتى ألقاك

الشطر الاول
............
هناك عند شاطىء ستانلى بالاسكندرية كان يقف هذا الشاب الوسيم الذى لم يختلف على و صفه اثنان عندما يصفون قامة طويلة .. وجسم معتدل.. و كتفان عريضتان بهما قوة .. و يد فتية ووجة مُعبر بملامح جذابة و عينان تتحاوران تقولان ماتريد .. و شعر كثيف أسود عميق في تفاعله مع حركات رأسه ورغم شقاوة النظرة و نباهة التصرف إلا أن عيناه تشع دفئاً أخر .. أنها نظرة بنات حواء لرجل كهذا .. يساوى الكثير فى أحلامهن وأمالهن فى أن يعشن فى كنفه وهو الأعزب رغم أنه على مشارف العقد الرابع من عمره , ومع ذلك فهو يترك نفسه ملكا لكل من ترغب القرب منه .. فقضية الزواج بالنسبة له قضية خسارة وهو لم يتعود أن يكون أسيراً لأحد .. هذا هو ببساطة ..
هذا الوقت من الأوقات الساحرة فى شهر نوفمبرو رغم النسمات الباردة إلا أن الإسكندرية تأخذ سحراُ خاصا بها فى بداية فصل الشتاء .. إقتربت الساعة من الثالثة و النصف بعد العصر و اعلنت أمواج البحر عن هبوب رياح خفيفة باردة تثير حركة الموج الذى يشتد من وقت لآخر ليصافح الصخور لا لينهال عليها .. وهذا الوقت الخاص له مذاق متميز في أمزجة الناس و خفتهم و حركتهم.. ووسط هذا كله أدار الرجل ظهره للمدينة واختلى بنفسه في هذه اللوحة المُعبرة ما بين البحر و السماء.. حتى مر وقت قصير أدار ظهره من جديد للشارع يهتز فى قلق وترقب ينتظر هذه السيدة الجميلة الأنيقة التى وقفت بسيارتها قرب الشاطئ و قالت بصوت متفائل
ـ " فؤاد ها أنا وصلت "
ابتسم فؤاد ابتسامة تحمل عتبا وهو يقول لها
ـ لقد تأخرتِ أنى اكره الأنتظار اوقفى سيارتك و الحقى بى .
أوقفت السيدة محرك السيارة و سارت اتجاهه حتى وقفت بجواره تشم هواء البحر ثم قالت
ـ الجو غاية فى الجمال و السحر اليوم , أليس كذلك
ـ نظر اليها بعيناه الدفئتان وقـال.. ليس أكثر روعة منك اليوم .. أنيقة و جذابة
وقفت امامة تتأمله فهى تحب كل شىء فيه عيناه التى تشع ذكاءاً وخطوط التعبير المرسومة على وجهه وشبابه وحيويتة ثم سألته
ـ إلى أين ستصحبنى اليوم .
تجاهل فؤاد الطلب الذكى فهو خبير بطلبها المتخفي و قال لها
ـ ما رأيك فى وجبة ساخنة فى أى مطعم ترغبين فيه ـ مدت السيدة يدها تداعب السهم الذى يرسمه قميصه عند فتحة صدره و كأنها تاهت وسط غابة من أشجار تحمل مغناطيساً يجذبها اليه بقوة و قالت
ـ فؤاد قلت لك إلى أين ستصحبنى الآن ..مابك لماذا لم تجبنى
ـ أين تريدين الذهاب
قالت فى عصبية كل الأماكن تزعجنى كلها ضجيج وأنا أريد مكاناً خالياً من الناس كن معى فى أى مكان منعزل فأنا ملك يديك
ـ أمسك يديها وقال لها بحرارة دعينى أحترم صداقتك
فثارت غاضبة ـ ألا ترى انك أهنتنى كثيراً .. أكثر من عام وانت تتهرب من وجودى فى حياتك رغم أن كل تصرفاتك معى تقول إنك تحبنى تريدنى وكلما اقتربت منك بهذا الاحساس أجدك تبتعد عنى .. لماذا ؟ قال لها وهو يتألم لكلماتها
لآنك زوجة لصديق لى جمعتنى به علاقة عمل و علاقة ود
قالت له بإشمئزاز ـ متى و أنت صاحب هذه المبادئ وسيرتك تفوح رائحتها في كل مكان عن مغامراتك أم ترفض حبى لعيب بى هل أنا أقل من فتياتك
قال ـ إنهم نساء ليل لسن زوجات لرجال محترمين .. وأنا لا أحب أن أراك هكذا ..
أحست بالخجل من نفسها و قالت وهى مرتبكة و بعد ..
قال وهو يطيب خاطرها إسمعينى جيداً
ـ أنا عشت حياتى كما سمعتى مغامراً ألهو كما يحلوا لى مع فاتنات الليل و الصغيرات اللاتى يعشقن المغازلة و قصص الحب إلا أنى شريف المهنة فهذا لا يعنى أن أفصل بين شرف مهنتى وشرف معاملة زوجات اصدقائى مهما كانت حياتى كلها عبث .. ان ما تحسين به فهو لك ملكك أما أنا فلست ملكاً لك , لا قلباً ولا جسداً , إن كنت تفتقدين الحب فى زوجك , التمسيه منه قدر المستطاع بإمكانك المحاولة بشتى الطرق خاصة فى أن تتخلى عن اعجابك بذاتك واناقتك الزائدة  ورفضك أن تزينى حياتك بطفل يملأ عليك هذا الفراغ و يقرب منك زوجك .. صدقينى أنا لا أهينك أنا أرد لك كرامتك
ـ نظرت اليه و قالت
ـ غريب انت يا فؤاد . و كأنك غير راض عما تفعله أو ربما راضى و تخدعنى بهذه الكلمات .. لكنى لن انكر يوما حبى لك و أنك غيرت كثيراً بداخلى فتعلقى بك جعلنى أترك عادات كثيرة أهمها أننى كنت أقتل نفسى يوميا بالسهر و الشرب لكى أنسى أننى تزوجت رجلاً كثير السفر مغرم بالعمل , هاجر لبيته رغم ثروته التى تتدفق إلىّ و لكنها لا تسعدنى ومع ذلك سأفكر فى عرضك الجديد هذا ربما يرضى من نفسى العليلة ثم ضحكت و قالت
ـ أنت .. يافؤاد تكون بهذا الوفاء لصديقك أكاد أكذب نفسى
و ذهبت وهى تحبس الدموع فى عينيها .. ولكنه أحس بالضيق و كأنه يكره ان يكون صادقا للحظات وكأنه لا يرغب فى رؤية إنسانيته بأى شكل من الأشكال .. ذهب غاضباً إلى شقته الخاصة يصطحب مغامرة من مغامراتة , لكى ينسى بها انه كان صاحب موقف نبيل ورافع لواء صدق .. ثم بعدها خرج مسرعا إلى الشارع واتجه من جديد إلى الشاطئ فتلقفته الرياح الباردة , وقد حل الليل و لم يبق على الشاطئ غيره حاول أن يشم الهواء ليجدد نشاطه وكأنه عائد من مشقة إلا أنه شعر بدوار و حالة من الغثيان وكاد أن يسقط على الأرضفتلقفته يد شديدة أعادت له توازنه وصوت يقول
ـ " على رسُلك يابنى " التفت بجانبه فوجد شيخا مسناً إلا أن وجهه مبهج و لحيتة بيضاء تلمع , ملامحه هادئة ووديعة تفوح رائحته الطيبة الزكية فى أرجاء المكان ... فأحس فؤاد أنه استفاق من حالته التى كان عليها من قليل وقال للرجل
ـ المعذرة يبدوا اننى متعباً أو برداناً لست أدرى .
ـ قال الشيخ بهدوء ووداعه
ـ الجو هادئ و ليست فيه برودة شديدة ووجهك لا ينذر بعلة قد تكون البرودة بالداخل والعلة فى النفس .
قال فؤاد وهو يرتعد
ـ و لكنى أشعر بالبرد
فناوله الشيخ سُتره كانت على ذراعه و قال
ـ هاهى سترتك يابنى تدفئ بها من احساسك هذا .. ثم دثره بها وضمه اليه ضمة قوية و قال
ـ برودة النفس تجمد الإحساس فهى لا ترحم كبيراً ولا صغيراً ..
أغمض فؤاد عينه بعد ما أحس بالدفىء و شعر بالسكينة ثم فتح عينه ليشكر الشيخ فلم يجده , وكأنه شيئا لم يكن ولم يبقى فى المكان سوى عطره الزكى ..تلفت حوله فى فزع أحس برعشة أعادت له صوابه عندما وجد سُترته القديمة على كتفه.. و تذكر أنه لم يخرج من بيته بشيىء , بل خرج على عجل ثم سرعان ماتذكر أن هذه السترة فى غرفته فى بيت أمه ..و أنه لم يلبسها أبداً فهى هدية قديمة من أمه وهو طالب بالجامعة إلا أنه لم يحبذ لبسها وفضل الاحتفاظ بها ..
ـ أحس فؤاد بالرهبة وفضل الذهاب إلى البيت ليرتاح .. ثم قال فى نفسة يحاول أن يجد مبرراً لما حدث
ـ ربما حملتها معى دون أن أشعر
وأسرع إلى سيارته فوجدها مغلقه تماما .. إذا كيف خرجت هذه السترة منها لو كان فعلا حملها معه .. ومع ذلك قاد سيارته وهو يحاول أن يضع أعذاراً لما حدث .. حتى وصل إلى بيت أمه دون أن يدرى بالرغم أنه كان ينوى العودة إلى فيلته الخاصة به ..
طرق الباب بيد متعبة ففتحت له أمه و استقبلته فزعة وهى تقول
ـ ما بك يا فؤاد ..أراك أصفر الوجة هل بك أذى يا ولدى ..
القى فؤاد عليها التحية ودخل متثاقلاً ليسلم على جده الذى نظر إليه نظرة ألم وهز رأسه و اكتفى احست أم فؤاد بفزع من حالة ولدها وكررت عليه السؤال ,
فاستدارلها و قال بعينين مجهدتين لا شىء يا أمى هل غرفتى جاهزة
ـ أجل يا ولدى فهى دائما جاهزة فى انتظارك
حسنا ساعدينى أريد أن أرتاح . فلقد تعبت اليوم إلا أن و الدته لحقت به و قالت
فؤاد متى أخذت هذه السترة من دولابك .. ولماذا تلبسها الآن ألم ترفضها منذ زمن , ثم أنها قديمة على موضة هذه الأيام
ارتبك فؤاد وهو يحاول أن يشوش على ظنونه وقال
ـ لست أدرى يا أمى ربما لأن هذه الآيام يحلو للناس لبس الموضة القديمة يلبسون العتيق ربما لأنهم ملوا بهرجة الحديث إبتعدت الأم عن ولدها تقطب جبينها من كلماته كما أنها أحبت أن ترى تأثير وجهه جيدا وهى تقول

ـ فؤاد ألم ترى ما كان فى جيبها ـ طيلة هذه السنوات
ـ ماذاكان فيها
ـ ضع يدك يا فؤاد و سترى وضع فؤاد يده بحذر فى جيب السترة فأخرج مصحفاً صغيراً وورقة مطوية.. إلا أنه اهتز داخليا عندما رأى المصحف فى يده , وتذكر أن يداه كانتا فى طريق أخر منذ ساعات قليلة , فوضعة بسرعة فى جيبة و قال لأمه ما هذه الورقة تنهدت الأم و قالت
ـ أنها ليست ورقة واحدة , بل تحمل وريقات صغيرة إنها تحصينات عبارة عن أدعية جمعتها لك من كتب أولياء الله الصالحين , هذه الوريقات تحمل الدعاء المستجاب لبعض الآنبياء وصحابة رسول الله , ومن عندهم علم من الكتاب .. لتحميك وقت الشدة إلا أنك تجاهلت السُترة كعادة أى هدية أتى بها إليك
اقتربت منه أكثر وضمت كتفيه بيدها و قالت
ـ احتفظ بها يا ولدى فى محفظتك فهى عينى التى تحرصك وقلبى الذى يدعو لك لعل الله يستجيب و يكشف عنك ما انت فيه
أحس فؤاد بدوار شديد كأن أمه صدمته وهو يسأل نفسه من الذى رأيت ؟

أحس بالعرق يتصبب من وجهه قال لأمه
ـ أرجوكِ يا أمى أنا متعب جدا ساعدينى أريد أن أنام تلقفته أمه و قلبها ينفطر عليه وهو الذى يهجر مشاعرها لفجوة عميقة بينهما منذ وفاة والده وكأنه يعاقبها على ذنب لم ترتكبه سوى أنها أغلقت بابها فى وجه زوج مبتذل عابث لم يُقدر أن له بيت وزوجة رامياً بكرامتها عرض الحائط ولما مرض ولزم الفراش كانت تعطيه الرحمة بحساب و تحاول أن تحمى ولدها الوحيد لكى يُربى فى كنف والدها وهو رجل العلم الفاضل ..إلا أن فؤاد لم يسلم من همس والده فى أذنه وهو يسمم أفكاره ويؤكد له أن والدته سببا فيما آل اليه وأنها ستقتله بيدها ولما مات انذوى فؤاد يحمل هذا التعب لأمه كارهاً كل ماتقدمه إليه وهى النبيلة التى أخفت ماضى أبيه عنه لكى لا يعانى الأمريّن فى حياته , ولأنه الوريث الوحيد لعائلة أبيه المنقرضة و التى اشتهرت بالثراء .. ولما فشل عمه العقيم فى أن يتزوج من أمه كى يضم الولد و الثروة فى حياته فعاقبها برفضها فى أنه زاد من سموم أفكاره وجعله متمردا عليها وعلى قيم جده وهجر بيت العلم والثراء المعنوى والفرار إلى حياة الثراء وكثرة اللهو ومع كل هذا لم تيأس أمه أبدا فى مجاهدة نفسه كلما رأته ولكنه رغم إحساسه النافر ناحيتها إلا أنه يشعر دائما بأنه فى حاجة إليها , حتى وأن لم يتحدث معها أنه لا يذهب اليها إلا و هو فى مثل حالته هذه , وكأنها مازالت له الأمن والأمان من نفسه وها هو الآن بين يديها تسانده للذهاب إلى سريره ثم حاولت أن تعينه على تبديل ملابسه إلا أنها احست برائحة العبث فى ملابسه التى يرتديها
ـ قالت له كأنها تريد أن تخفف عنه .. ماذا لو أخذت حماما لتنام هادئا
ـ إنى متعب الآن سأخذه غدا وكانت عيناه تتهربان منها
قالت له مُلحة ..

ـ لو أخذت حماما الآن لقضيت ليلتك مرتاحا يا فؤاد فالماء ينقى الجسد و يسر النفس قم يا ولدى و سأذهب لاعد لك وجبة خفيفة للعشاء.
وانصرفت الأم تعد الطعام وانصرف فؤاد يغتسل فى هدوء ثم سكن على سريره وسرعان ما أعدت له أمه وجبه بها ( جبن و مربى و بيض وكوب من اللبن ) وعادت بهدوء تضع امامه الطعام وتحنو عليه ليأكل فنظر فؤاد إلى الوجبه ونظر إلى أمه وقال
ـ وكأنى عدت طفلا إنها وجبة العشاء التى كنت تعدينها دائما الاترين أننى كبرت على هذا .
قالت ـ وهل تظن نفسك كبرت كثيرا بالنسبة لى .. ستظل كما أنت صغيرا فى احتياجك لى ووجودى بقربك كما هو الآن وسأظل هكذا حتى أطمئن عليك وأشعر بأنك فعلا لست بحاجة لى مع أنى أرى فى عينيك دائما رفض لى ولمشاعرى نحوك إلا أنى لن أيأس أبدا سأظل اناجى الآمل بأن يحى فيك حواسك نحوى بشتى الطرق فقلوب الآباء لا تعرف اليأس أبدا فى التماس القرب من ثمرات افئدتهم .. و أنت ثمرة من فؤداى الذى ارتجف بكل المعانى الصادقة وأنا أعطيك حبى ووقتى وعمرى كله .
وعادت تتنهد وهى تتأمله وهو يتناول طعامه بعد ما أحس أنه استمد منها قوة تساعده على البقاء والنماء من جديد رغم كل شئ .. ثم عاد ونظر إليها نظراته المعاتبة كعادته وكأنه يقول لها .. ولماذا مامضى ؟
ـ فقالت له وهى التى تقرأ حوارات عينه .. لاداعى لهذه النظرة أنا لا استحقها منك يافؤاد صدقنى يوما ما سترى بنفسك أنك تظلمنى لو علمت الحقيقة لما انبتنى هكذا
ـ وما هى الحقيقة ؟ لو أردتى راحتى قولى لى الحقيقة
ـ ماعادت تعنيك بشئ كفاك هزات عنيفة فى حياتك يكفيك ماأنت فيه لقد اخفيت عنك حقيقة كل الأمور لأحميك ولكن مع كل هذا الحرص فشلت فى حمايتك من طريق الضياع والإبتذال وكأن الانتظار فى أن تعود أصبح مكتوبا على ولكنى أؤمن بالصبر الجميل .
أحس فؤاد بدموع أمه تختنق تريد الفرار وكاد ان يقترب منها ليُقبل جبينها إلا أن شيئا ما بداخله منعه من ذلك أحس بشىء يُجبره على الثبات مكانه ولم يجد سوى الصمت حتى ذهبت أمه واغلقت عليه الباب فركن إلى نفسه يحاول النوم وقد أصابه الاجهاد ولم يبق من اليوم سوى عبير هذا الشيخ الذى ذهب و كأنه ومضات النجوم فى ليل كاحل من شده سواده يخاف فيه الغيلة التى لاترحم .. ***************************

ومرت أيام قليلة هزت فيها نوة الإسكندرية قبل عيد الميلاد قلب فؤاد فهو يعشق هذه النوة التى تمر لتنذر بميلاد العام الجديد .. وهو يتحرك كالبرق ليراقب احتفالات هذا اليوم وسط الصخب وفاتناته وحياته الخاصة .. ذهب إلى شقتة الصغيرة و الخاصة بحياته اللاهية فهو لم يتعود أن يلهو أبدا فى فيلتة التى تضم ذكريات عائلته و حياة عمله .. كان يتحرك ليرتب كل شئ خاص بهذه الليلة التى تفصل بين عامين أحدهما يمضى والآخر يأتى بما يحمل من مفاجآت ولكنه كان قلقا هذه المرة وهو يلحظ تغيب صديق عمره "ماهر " والذى لم يتعود أن يختفى عن أنظاره فى مثل هذه الأيام شئ طبيعى أن يحدث هذا وهو رفيق عمره و أيامه بل و ساعاته لدرجة أنهما اشتهرا بالتوأم فهم شركاء فى العمل والحياة معا وقلما يوجد رفقاء بهذا التلاحم حتى أسسا شركة عملاقة لها اسمها وسمعتها ونجاحها المستمر هكذا نجحا كرجال أعمال وبقيت حياتهم الخاصة لهم كأسرار مهنتهم يتبادلان المرح و السهر وعبث الآيام .. هنا تذكر فؤاد كلمات صديقه الذى مازحه يوما وقال له

ـ ماذا لو مت قبلك
ـ فكان رد فؤاد حاضرا . سأعتذر للحياة و الحق بك يا صديقى فأنا لم أتعود أن أكون بدونك .. أنت حميميى فى الدنيا .
ثم قطب فؤاد جبينه عندمت عاد لنفسه و قال أنها المرة الاولى التى ينقطع فيها ماهر عن زيارتى .. لقد مضى اسبوعاً لم اراه وقبل هذا الاسبوع كان يتهرب من لقائى خارج العمل .. أمسك الهاتف بسرعة وطلبه وقد أصبح كثير التواجد فى بيته وهو لم يعتاد منه ذلك ..
رد عليه ماهر بتحية حميمة فقال له فؤاد بلهجة مُلحة
ـ ماهر لا تتهرب من لقائى سأنتظرك بعد ساعة .
ـ ارتبك ماهر فى سؤاله ـ اين يافؤاد
ـ فى بيتى أم تحب مكانا أخر .
قال ماهر معتذراـ أفضل أن نتقابل خارج البيت
ـ حسناً يا ماهر سأنتظرك فى كازينو الشاطبى هل يناسبك
ـ أجل ويمكننا أن نتنزه على البحر نزهة خفيفة أنى مشتاق أن أشم الهواء هذا اليوم ..
ـ سأكون عندك بعد ساعة . أنها ساعة ثقيله فى نفس فؤاد فمازال يساوره القلق من أسلوب ماهر حتى وصل فى الميعاد فكان سلاما حميماً صاحبه خوف شديد فى نفس فؤاد ولاول مرة من عين ماهر التى تبدو ساكنه منكسرة لاتحمل بريق الايام الماضية فسأله بلا تردد
ـ مالى أراك هذه الأيام غير عادتك لماذا لم تعد تلبى دعواتى اليك ولم تعد تدعونى إلى سهراتك المفاجئة .. كأنى أرى وعكة أصابتك أم أنه هم أم ماذا أريد أن أطمئن عليك
ـ حاول ماهر أن يتهرب من سؤاله قائلا
ـ لا شىء يا فؤاد أنى مشغول هذه الايام
ـ ومتى يشغلنا عملنا يا صديقى عن حياتنا سوياً ألا ترى ردك غريباً علىّ أنى لو لم أُلحُ عليك بالمقابلة لما أتيت أليس كذلك .
نظر ماهر إلى صديقه نظرة حائرة فأدرك فؤاد ذلك بذكائه فقال له قبل أن يجيب
ـ يا ماهر لو لم تحبذ مصاحبتى فلك الحرية لا تقل ما لا ترغب أن تقوله يا صديقى نحن لسنا غرباء من داخلنا عن بعضنا البعض أنى فقط قلق عليك لذلك سألتك ما بك .
ـ أخذ ماهر نفساً عميقاً ثم قال لصاحبة بكل صراحة يا فؤاد لقد سئمت هذه الرحلة الشاقة لقد شعرت بالتعثر والالم وعدم الارتياح
ـ هل سئمت الحسناوات الجدد غيٌرهم ولا تترك نفسك لهذا السأم أبدا
أحس ماهر ببخاسه الحديث وقال لصاحبه لست أقصد ذلك إنما أقصد أن المعنى العام لهذه الحياة الخاصة أصبح سخيفاً أحس فؤاد بارتياب من رد صديقه فسأله ما بك ؟ أجبنى بوضوح
ـ ليس بى شىء لقد صحوت من هذه الغفلة القاتلة وقررت الزاوج كاد فؤاد أن يقول له هل جننت ولكنه تراجع وكأنه ليس من حقة أن يتمادى معه وهو الشخص الغريب عليه من لهجته و قال :
ـ اهذا انت ؟
ـ نعم أنا , ولما لا ولما لا نكون أصحاء , ماذا اخذنا من الشقراء و السمراء , وطويلة القامة و فاتنة القوام , نأخذ ليالى سرعان ماتجرفها الأيام والسنين لتزيد من معاصينا , ونظن أننا فى قمه الانتصار , فى قمه النجاح و التملك , ونحن
نحمل شرور أعمالنا على أنفسنا . ولا نعترف وتلاطمنا أمواج التعب و الوهن والانهاك العقلى و البدنى ونحن ماضين فى طريق الحرام بلا هوادة لم نحاسب أنفسنا يوما ماذا قدمنا لله وللغد ..
وسط هذا كله صحوت على حب فتاه قد تكون تخطت سن الزواج المبكر فى مجتمعنا  فتاه فى الثانية والثلاثين من العمر , إنها من أسرة متدينة , مثقفه لا تعرف طريق الخلاعة جمالها هادىء , وصوتها شجى , عندما تحدثك حديث الرجعة الى الله .. إنها أخت زوج أختى عندما رأيتها ذات يوم عند أختى أحسست بعاصفة حبها كلما كانت تحاورنى و أنا أدافع عن حياتى التى كنت أظن أن لها قيمه حتى كادت تقتلنى هلعاً من سوء العاقبة و ما ستؤل إليه حياتى
حاورتنى حتى اكتشفت أننى لا شىء ولم أفعل شئ ولست إلى شىء قضيت أياما أسمعها وهى تعلمنى كيف أحاسب نفسى وكيف أتعلم حب الله , أغلقت على نفسى الأبواب أياما أبكى واستغفر وأذهب لأحضر ندواتها وأسمعها وهى تحاضر فى مجالس العلم وهى دارسة للفلسفة لكنها كرست جهدها للفلسفة الباطنية  .. ولما سألتها لماذا لم تتزوج والكل يتحدث عن كثرة من يطلبها للزواج فقالت
ـ الزواج رسالة مقدسة وعندما أجد رسالتى سأتزوج ..
خفت أن أقول لها بأنى أحببتها وخفت أن اتقدم اليها راغباً فى الزواج منها أن ترفضنى وأحسست بان مكانتى وحالى كله لا يليق بها وخفت أن أقول لها كلمات فضلت الصمت فربما ترانى غير جدير بأى كلمات معها ..
و اعتكفت اطلب من الله التوبة ولا أمل لى إلا أن يتقبل توبتى وهى من علمتنى أن خير التوبة عمل صادق وتحمل مشقة من أجل الوصول إلى طريق الله وها أنا أغسل ذنوبى بصلاتى وصيامى و البحث عن رسالة مقدسة أحيا بها من جديد تكفيراً عما بدر منى ..وعندها كنت اغسل سمعى و بصرى والتالف من عملى .. حتى أخذتنى الشجاعة وقلت لها
ـ إنى عبد تائب إلى الله يولد من جديد على يديك يحتاجك ليتعلم يحبك لأنك انرتى له الطريق فهل تقبلينى زوجا . فقبلتنى زوجاً لها بعد تفكير ربما أحست أننى رسالتها التى انتظرتها
تنهد ماهر وقال هذه هى كل الحكاية .
أغمض فؤاد عينيه وغرق قلبه فى كلمات صديقة وقال فى هدوء ـ وهل يعنى هذا أننى لن أستطيع رؤيتك وهل ستظل على هذا الحال .
أجابه ماهر بطلاقة
ـ يا صاحبى نحن أحباء والأحباء لا يفرقهم إلا الموت أنت جزء هام فى حياتى لقد أنعم الله علينا بصحبة وفيه وحب أخوى نادراً ما يحدث وكم أتمنى أن يكون حباً لله وأن يبدلنا الله بصحبه حقيقية نكون فيها مجاهدين لأنفسنا ..ولكنى لا أستطيع مصاحبتك على حالنا القديم ..أما عملنا وشركتنا فهى كما هى فنحن و الحمد لله لنا ذمة مالية صادقة وربما صحت شركتنا لأنها لم نعرف طريق الحرام أبدا فى جمع المال وكلانا يعرف الآخر جيدا أسسنا حياتنا سويا وسنظل وسيكون الفراق فى حياتنا الخاصة اللاهية التى لا معنى لها عندى فلكل منا طريق حتى يهديك الله فلقد عاهدتها أن أقطع صلتى بالماضى وألا اصاحب إلا من يعمل من أجل رسالة هادفة تساعدنى على مشقة هذه الحياة الفانية وانت صلتى بالماضى مادمت على حالك لتكن زمالتنا فى عملنا مقتصرة على مصالحنا العامة والا فلننفصل ونفض الشركة حتى أجنبك الحرج .
ـ فقاطعة فؤاد فى ذعر : لا يا ماهر لا تكن قاسيا
ـ انا لست قاسيا بل أريد أن أرحمك من معاملة لم تأخذ عليها
ـ فقال فؤاد وهو يؤاذر صديقة.. انا لا أكره لك الخير أبدا ولكن دعنى أجدك وقتما أحتاج اليك لا تدعنى وحيداً أعدك أننى لن اذكر أبدا أمامك الماضى بما يحمل أنت أعلم الناس بظروفى فأنا حرمت من والدى ومن وجود إخوة لى وانفصلت بنفسى عن أمى وجدى وأنت تعلم أننى وسط كل هذه العلاقات والمهرجانات ليس لى أنيس ولا صديق غيرك
أحس ماهر بحالة صديقة فأشفق عليه قائلا :
ـ حسنا يا فؤاد , أعدك بأنك ستجدنى دائما بجانبك ولكن بعيدا عن هذه الاهوال لا تذكرنى بأى شىء مما مضى إننى فرح بتوبتى وبثوبى الأبيض الجديد لا أريد أى نقطة واحدة سوداء تعكر صفو هذا اللون
ـ حسنا يا أعز الاصدقاء
– قالها فؤاد وهو متألم استأذن ماهر وانصرف بكلمة واحدة – إلى اللقاء .
لم يستطع فؤاد أن ينهض من مكانه ليودع صديقه أحس بثقل قدمية جلس يرثى صديقة فى صمت فلا يجد كلمات له فى نفسه غير شعور بانشقاق داخلى .. ثم هدأ وبدأ يسأل نفسه
ـ هل حاسب نفسه على ما مضى إنه لم يفعل ذلك يوما ..و لم يشعر وهو جالس كم مر من الوقت حتى هبط الليل عليه وكأنه كان غائبا عن الوعى فتحامل على نفسه يحاول أن يسير ليخفف ما يحمله وهو يسأل نفسه من جديد ..
ـ لماذا لم أحاسب نفسى وأنا الذى عشت أنتقم من تعاليم جدى وأمى فى نفسى و أقتل احساسى .
ظل يسأل نفسه وهو الذى تعرفه الناس بصفات أخرى غير هذه النواحى الخاصة وهو الجاد فى عمله نزيه فى تعاملاته لم يغتصب أبدا حق أحد .
ظل يمشى وقتاً حتى أحس أنه جائع فتذكر أنه لم يتناول شيئا منذ الصباح بعد إفطاره وها هو الليل قد حل فآثر العودة فالتفت ليعود فإذا به يصطدم بالرجل الشيخ الذى كان يمسك بيده أحبال من التمر كأنه يبيعها فأبتسم له وقدم له حبلاً وقال
ـ ألا تأخذ هذا قد تكون جائعا
ـ لقد جئت فى وقتك أيها الشيخ أنا فعلا جائع
أخذ فؤاد طرفا من التمر يأكل منه فوجده ذو طعم طيب وهادىء
ـ فقال ما أطيبه هل تدرى لم أحاول يوما أن أكله لم أكن أعرف أنه بهذا المذاق الطيب .
قال له الشيخ وهو على حالته .. إنه غذا الأنبياء وغذاء أهل العلم والفقراء والأغنياء سيريح معدتك المضطربة نظر إليه فؤاد فى دهشة وقال له
ـ وكيف عرفت أن معدتى مضطربة
ابتسم الشيخ وحرك أصابعه بمهارة ليعقد تمرات الاخرى التى معه  فى الحبل فأنشغل فؤاد عن سؤاله بمراقبة حركة يده والتمرات التى تخترق الحبل دون وسيط رغم جفاف الثمرة ومع ذلك اشفق عليه من عناء المسير من أجل أن يبيع ما معه فمد يده فى جيبه واخرج نقودا لم يعدها إلا أنه أنشغل من جديد بسؤال أخر قبل أن يناوله النقود وقال
ـ ذكرتنى بالسُترة أيها الشيخ أخبرنى كيف عثرت عليها المرة الماضية
الاأن الشيخ لم يرد عليه.. وانشغل فؤاد من جديد بالتمرات التى يخرجها من جيبه ويعقدها فى الحبل دون إبرة وهو يبتسم فى وجه فؤاد ابتسامه هادئة فقال له فؤاد
ـ ابتسامتك هادئة ومريحة جدا .. من أى البلاد أنت ولماذا أنصرفت المرة السابقة فجأة
ـ قال الشيخ وهو ينصرف دائما أسئلة , لماذا تكثر على بالأسئلة ولا تسأل نفسك ؟
ـ ماذا تقصد أيها الشيخ
ـ أسأل نفسك وأنت تعرف منها الكثير .. وهم الرجل أن يسرع فى الانصراف فحاول فؤاد أن يوقفه فلم يستطع أن يميز ظهره بين المارة القلائل كانت خطواته سريعة كالبرق كأن به قوة خفيه جعلت فؤاد يهتز من جديد لِما يرى و نظر فى يده فوجد نقوده وقال بصوت مسموع
ـ الرجل لم يأخذ شيئاً . ثم أحس بالحبل الذى فى يده فشعر بالذعر وكالمرة السابقة أحس أنه يريد أمه فذهب اليها حاملا التمر فى يده يتصبب عرقا يداه ترتعشان فقالت له مابك يا ولدى أراك مذعوراَ
ـ فقال لها وهو يرتعد بين يديها أماه أنى متعب وسقط على الآرض مغماَ عليه .
هى لحظات أرهاق ليس أكثر استفاق بعدها فؤاد ليجد نفسه بين جده وأمه والقلق بادياً عليهما وبعد ما تكاملت قواه جلس يحكى لجده ما حدث بدقة و أمه تنصت فى ترقب وما كان إلا أن أخذ جده حبة من التمر وتناولها فأستطيب طعمها وقال لابنته
ـ كُلى يا أم فؤاد ليس فى الآمر ريبة . ثم نظر اليها ليطمئنها بعد ماقرأ فى عينها قولاً مشهورا " هل رأى ولدى عفريتاً " و مع ذلك أكلت الآم فى حذر فنظر إليها أبوها نظرة شديدة وقال
ـ أتركينا وحدنا .
فخرجت ولم تنطق بكلمة .. وقتها أحس فؤاد بأنه عاد طفلا وهو فى حضرة جده . اعتدل فى جلسته واحنى رأسه ينظر فى مكان أخر يحاول أن لا يظهر نظرات الجرأة والإقدام التى أعتاد عليها , تذكر طفولته سريعا عندما كان يجلس أمام جده ليلقى عليه درس الأدب و الاحترام فمازالت له هيبته ووقاره رغم مرور السنين , ربما لأنه لم ينفرد به منذ أن فر من قيود العلم والألتزام ورغم أن جده يكاد يعلم عن حياته الخاصه الكثير إلا أن فؤاد فى هذا الوقت كان يقنع نفسه أنه لا يعلم شئ وأن جده لايتصور إلا أن يكون شابا مجدا هكذا تخيل أن يكون أمامه .. ولكن الرجل الشيخ كان أكثر خبرة منه حيث تسلل إلى نفسه وقرأ ما فيها وحاول أن يكون مريحاً معه فقال وهو يمضغ التمر
ـ ياله من طعم طيب وريح ينبعث من حسن منبت انه تمر من النوع الفريد لاتجد أوصافة إلا فى كتب بعض أولياء الله الصالحين وكأنهم كانوا يأكلون من ثمار الجنه وهم فى الحياة يهيمون حدق به فؤاد وقال
ـ المعذرة ياجدى قد لا أفهم قصدك فأنت كثير العلم و كم كنت اتمنى من داخلى و أنا صبى أن أكون فى بحرك الذى تعشقه من علوم الدنيا والدين
ـ وما منعك يا ولدى
ـ لست أدرى كنت أكره هذه الكتب التي تملئ دارك وكأنها تحاربني من كل جانب كلما كنت تقيدني بها كنت اصر على الفرار منها
قال الجد وهو يتنهد – إنه الشيطان الذي يصادق الجاهل و الذي يتربص لأبن أدام إنه القسم الشيطاني اللعين ( لاغوينهم أجمعين )
إذا فهو وعد ليس لي وحدي
قال الجد ـ إلا عبادك منهم المخلصين فهؤلاء يخاف منهم لآنهم يجاهدونه ليل نهار في السر والعلانية بالذكر والعمل " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " إنهم نفوس مطمئنة بعد الممات لآنها لائمه مجاهدة في الحياة... والقسم الشيطاني يخص ضعاف القلوب أنهم الصم و البكم اللذين لايعقلون ... ومتى ستعقل يا فؤاد لقد ناهزت السادسة والثلاثين وأنت على حالك متى ستخرج من حالة التيه هذه وأنت وصلت لما وصلت اليه
قال فؤاد وأنفاسه تتصارع
– جدي هل رأيت شخصا من العالم الآخر أم أنه جني
- سلام قول من رب رحيم .. أعلم يا فؤاد أنه لم تخلُ الدنيا أبدا من أولياء الله الصالحين إنهم أناس يعبدون الله بصدق ليسوا أصحاب معجزة بل معجزتهم في عبادتهم وأخلاصهم لله ويصدقك قولي عندما تستوضح الحديث القدسي في قوله تعالي " عبدي أطعني .. تكن عبدا ربانيا تقول للشيء كن فيكون " .. أجل هناك عباد الله يبتغون وجهه ورضوانه وهذا أعظم الطموحات ولا تنس أن الخير فينا حتي قيام الساعة .. وصفات العبد الخاشع الطائع لله لها دلالات في الكتب السماوية عبر الزمن .. ألم تسمع في قصة سليمان عليه السلام أن العبد الذي عنده علم من الكتاب أتى بعرش بلقيس بقوهَ فاقت حدود الجن وأن العبدة التائبة العابدة رابعة كُشف لها الحجب لترى الله عز وجل وحكايات لبشر عابدين مخلصين تفتح لهم أبواب كل شئ لتبليغ وعد الله في عباده يابني ونحن في شبابنا الصغير كنا نسمع عن رجل يقال له ( أبو خطوة ) أي خطواته مباركة كنا نستبشر بهم يذكروننا بالتقوى والعمل الصالح وإننا ينقصنا الكثير من الكد ومجاهدة النفس .. وأنت يا فؤاد ينقصك الكثير وطالما حدثتك روحك ولكن دون جدوى بنفسك التائهة.
قال فؤاد بنبرة أسفه – وهل من هو مثلى يؤنسه رجل صالح
قال الجد : " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لاتقنطوا من  رحمه الله " صدق الله العظيم إنها رحمه الله علينا فهي واسعة ولا نستطيع إدراكها مهما شعرنا بها .. دمعت عين فؤاد وقال لجده
- ماهر ترك كل شيء وقرر الزواج قريبا .. واليوم وأنا أسمع منه ما قال أحسست ع عن حق أنني وحيد
ـ لقد أحسن صنعاً بنفسه يا ولدى لقد أدرك نفسه قبل فوات الأوان
قال فؤاد وهو ينتفض " أنا متعب يا جدي .. متعب "
أرجع إلى ربك ومتى قررت العودة اليه ستجدنا كلنا في مساعدتك حتى ماهر ..
ـ هل تحبني يا جدي ومازالت حريصا على
لا تنسى يا فؤاد أن أعز الولد ولد الولد كما يقولون إلا أن حزني عليك كبير خاصة و أنا ارى دموع أمك التي تبكي عليك أكثر الليالي وحيدة على ما أصابك
- ولكنى حققت لها نجاحاً كبيراً في حياتي
- إلا أنك خسرت أعز ما يملك الرجل وهي عفته وحياؤه التي تزيده كرامة ورجولة واعتزازه بنفسه وتجعله كالماسة التي تبقى لامعة مهما مر عليها الزمن
أحس فؤاد بالخجل من كلمات جده وآثر الصمت وقام الجد و انصرف وتركه في عتابه مع نفسه ثم انشغل فؤاد بالشيخ والتمرات والأسئلة حتى خدرت حواسه واستسلم للنوم فطار بأحلامه إلى أرض غير ذي ذرع وسمع صوت امرأة تبكى بحرقة فأقترب منها فوجدها أمه يضربها رجل قاسى بسوط يهز الأرض من ضرباته ولما حدق به فؤاد وجده أبوه وهي تتوسل اليه بالرحمة وأحس فؤاد أنه يريد ان يخلص أمه إلا أن قدماه توقفت عن الحركة
وفجأة ظهر الشيخ الجليل  مهرولا إليها .. حتى دفع أباه بيده وانتزعها بقوة ثم حطم السوط وسار بها الى فؤاد ودفعها اليه قائلاً
ـ خذ امك فهى لا تستحق هذا العذاب ابداً ..ثم ناوله الشيخ سترته القديمة ووضعها على كتفه و كتف امه فوجدها فؤاد وقد اتسعت لهما وأخذ أمه بين أحضانه ليسير بها راجعاً
وهنا إستيقظ فؤاد على صوت أمه تناديه وكأنها مازالت في الحلم وتقول
ـ صباح الخير يا فؤاد .. هل أنت الآن بخير فتح عينيه على وجهها يتأملها قائلا
ـ أسعدتِ صباحاً يا أمي .. أجل أنا بخير واشعر اننى إستعدت قوتي .
ثم علق عيناه عليها وقال لها
ـ لأول مرة أعلم أنك جميلة فمازلت تحتفظين بشبابك ولأول مرة أشعر بأن هناك شبها بيني وبينك في أشياء . إبتسمت الأم و قالت
ـ أنت محق لقد أخذت شبهاً من وجهي أما قامتك وبقية تكويناتك فهي لوالدك رحمه الله ومع ذلك فأحياناً وجهك يقترب منه في تعبيراته لقد كان والدك في شبابه جذابا مثلك لا يقل حيوية عنك كذلك كان جدك لأبيك رحمهما الله جميعاً .. لقد كنت طفلا جميلاً يا فؤاد
قال لها في لهجة مداعبة
ـ وماذا عنى و أنا كبير هل مازلت ترينني كما لو كنت في طفولتي .
- بل أصحبت أغلى بكثير وأحلى وأبهى .. تنهدت ثم قالت قلبك طيب يا فؤاد رغم القسوة التي تظهرها أحيانا أمامي إلا أنى أحفظك من داخلك  لا تحب إظهار حقيقتك كأنك تخاف على هذه الحقيقة وكأني أشعر أنها ذات يوم ستكون لشيء عظيم في حياتك هذا الفيض المخزون أشعر أنه سيتدفق بشدة يوما ما لشيء قد يعلمه الله وحده أنت لم تكن أبدا من محبي الكذب ولا الخداع ولا تملك نفسا شريرة كما أنك تمتلك ذكاءاً يفتح لك الأبواب المغلقة ولم تبخل يوما بمالك على أحد يحتاجك وحتى صدقتك تخفيها وهذه الصفات لا تكون إلا في إنسان و رغم وقوعك في الأثم الذي يأتيك فى وقت الضعف إلا أن صفاتك الأخرى طاغية تجعل الناس لا ترى إلا فؤاد المحب العطوف .
إعتدل فؤاد ليرى وجه أمه أكثر وقال
ـ هل أنا في نظرك كل هذه المعاني بالرغم من بعدي عنكِ
قاطعته قبل أن يكمل قائله ـ لا داعي لأن تقول شيئاً يكفي أن أقول لك بأني أدعوا الله عز وجل أن يثني عليك بهذه الصفات الطيبة وأن يبعدك عن طريق الشيطان ويشفع لك عملك الطيب في جهات أخري وأن يبدل الله سيئاتك حسنات وإياك أن تظن يوما مابأنى  قد اتغير في مشاعرى نحوك فلست تعلم كم أشتاق اليك كلما تغيبت عني . وظلت غرفتك هذه هي ونساً لي في غيابك عن البيت كل يوم أفتح نافذتها لتدخلها الشمس وأراها تداعب عينيك كما كنت صغيراً أرتبُ لُعبك وأشياءك وأنا أتخيل مرحك وأيامك .. إنها مشاعر كثيرة بل هي قلوب الأمهات يا فؤاد دائما تهفو وتحن وتغفر نحن لا نعرف التكدر من أعمال أبنائنا ولا نشعر بالمذلة من تصرفاتهم وتسامحنا معهم هي قوة لمن يُقدرها إننا قلوب دائما تختلق الآعذار لأعز ما تحب وعندما تصبح أبا ستقدر قيمة هذه الكلمات لعلها يوما تبقى في ذاكرتك

إنها كلمات بقيت لفؤاد رغم جريان الأيام كالبرق سنتان نسى فيهم فؤاد أو كاد ينسى قصة الشيخ الذي لم يراه ثانية ومن خلال أحداث كثيرة حدثت عندما تزوج ماهر وأنجب طفلا سماه أحمد وهو الذي لم يراه إلا من خلال عمله ولحظات صداقة ملتزمة وعمل دءوب وبالرغم من أنه حُرم من التعرف على عائلة ماهر الجديدة إلا انه احترم رغبته والتزامه فكان يراقبه وهو يهرول مسرعا لأداء الصلاة وبعد إنتهاء العمل يفر إلى بيته لم يعد يخوض في أي أحاديث غير ما تحتاجه ظروف العمل وما يخص شئون الحياة ..ولم تفارق الابتسامة وجهه انما ازداد نورا ولم يتزمت فى شيىء رغم التزامه .
لقد تعود فؤاد على هذا بعد عناء وأصبح الأمر بعد ذلك عادياً أحس فؤاد بأن ماهر بعد حياته الجديدة نظم إدارة العمل وسيطر عليها من نواحي شتى بل ساهم في نجاح صفقات عديدة داخل القُطر وخارجة إلا أن فؤاد كان يسافر أكثر لعدم ارتباطه بأسرة إلا هذه المرة احتاج الأمر أن يسافر ماهر لعقد صفقة شراء سيارات من بلجيكا لأنه يملك خبرة اكبر في هذا المجال عن فؤاد ولكن شعور يئن داخل فؤاد لمغادرة ماهر مصر وكأنه يشعر بالاطمئنان علي كل شيء مادام ماهر متواجدا في مصر .. وهو مندهش بأنه لا يشعر بهذه الوحدة وهو مسافر الى الخارج إلا أنه يحب احساسه وارتباطه بصديق عمره بشتى الأحوال
أنها ليله باردة الكل فيها ساكن عندما رن جرس الهاتف وأيقن فؤاد انها مكالمة من ماهر فهو ينتظرها عندما رفع السماعة وبلا تردد قال 0
ـ مرحبا يا ماهر ، أين أنت ؟
- مازلت في بلجيكا , سأغادرها في الصباح الباكر يا فؤاد , إطمئن كل شيء علي ما يرام بإذن الله ستكون صفقة رابحة .
- حسنا يا ماهر أحسنت مبروك لنا لقد تعبت يا عزيزي
- وأنت أيضا تعبت يا فؤاد معي الحمد لله علي ما أتانا من فضل على أية حال عندما أصل إلي بيتي سأتصل بك
- حسنا يا ماهر صاحبتك السلامة
صمت ماهر قليلا ثم قال بنبرة محيرة هل من شيء آخر يا فؤاد ؟
- أشكرك يا ماهر ما بك كأنك قلقاً
- لا شيء غير أني أشعر بخفقان قلبي وكأني عشت في غربة طويلة وعائد منها خاصة كلما تذكرت ابني أحمد
- يبدوا أنك إشتقت اليه كثيرا لذلك تشعر بهذا الإحساس
- ربما يا فؤاد عندما اعود سآتى اليك بأحمد لتراه لقد اصبح من الممكن اصطحابه الان
- حسنا يا ماهر في رعاية الله حتى نلتقي إلى اللقاء
- إلي اللقاء يا صاحبي
أحس فؤاد بفرحه كلمته التي لم يسمعها منه منذ مدة " ياصاحبي " إنها كلمه عزيزة عليه . قضى فؤاد ليلته في فيلته الخاصة والتي ورثها من أبوه وجده وعمه أيضا هي مكان اقامة عائلته وذكرياته وكلما أراد أن يخلو بنفسه ويفكر جيداً يمكث بها , وظل محافظا علي كل شيء فيها وعلى طرازها المميز وظل يحفظ لها قيمتها وسيرتها يتجول من وقت لآخر في غرفها ليرى صور جده وجدته , وغرفه والده ووالدته التي شهدت أول حياتهما معا وصورتهما وكذلك غرفة عمته وعمه وكل شيء لهما ومازال يحب النظر إلي هذا الركن الهادئ الذي يضم بعض التحف والانتيكات القديمة و كل اسطوانات أم كلثوم وعبد الوهاب الذي يحب سماعها من وقت لآخر ليستشعر جو هذه العائلة الراحلة وهو شخص يحب الانتماء وربما هذا كان من اسرار نجاحه ..
ولم يكن أمام فؤاد بعد هذه الجولة إلا أن يأوي إلى فراشة يحاول النوم يغلبه الأرق حتى أستسلم للنوم و قرب منتصف النهار ولا يدرى كم من الوقت مر عليه وهو نائم عندما رن جرس الهاتف بشكل متتالي مما ايقظه بسرعة ورفع السماعة ليسمع صوتا قلقا يقول له مرحبا هل أنت السيد فؤاد؟
- نعم , من أنت ؟
- أنا زوج أخت ماهر شريكك
قال فؤاد متعجبا . أهلا بك . خير ؟
يؤسفني أن أقول لك أن ماهر في مستشفي الشافي التخصصي أنه يلفظ أنفاسه وطلب منى أن اتصل بك لتأتي حالا
أحس فؤاد بضربه عنيفة هزت كل جسده وكأن رأسه قد شُجت من هول الخبر وقال متما لكا نفسه
- ماذا حدث أرجوك
- تصادمت السيارة التي كانت تقله من المطار بشاحنه وهو في الطريق من القاهرة الي الإسكندرية أرجوك لا تتأخر الحالة لا تنذر بخير والظرف صعب انتهت المكالمة ولا يدرى فؤاد كيف خرج من منزله ولا كيف سيطر على أموره وهو ينطلق كالمجنون إلي المستشفي ولا كيف أخذ الممرات مهرولا حتى اهتدي الي غرفة ماهر.. فوجده ملقا على السرير جثه تكاد أن تكون مهشمه كان حوله فوج كبير من الناس لا يميز أحد منهم فعيناه أمتلات بالدموع يشعر بها ساخنه شديدة رغم أنه لم يجهش بالبكاء إنها تفر في صمت اقترب منه وهو لا يكاد يصدق وقال له
ـ حدثني يا ماهر , قل أنك تسمعني أراك مستفيقا أنا فؤاد , رفيق عمرك وأخيك , وأنت أقرب الناس لي , رد علي يا صاحبي وقل أنك تسمعني
ومع أن ماهر كان متثاقل اللسان والحركة برأسة بطيئة كأنه يغيب عن الوعي قليلا ثم يفيق حتى ينتبة ورد عليه بهزة رأسه وأشار الي زوج أخته وقال متثاقلا أعطه الولد
فناوله الرجل إياه فحمله فؤاد وقبل رأسه فقال له ماهر إنه ولدى أحمد كنت أنوى هذه المرة أن أتى به اليك لتراه وتحمله بعد ماطلبت منى ذلك مرارا إلا أن الوقت لم يسعفنى ..فؤاد أعطى أحمد حقه فى شركتنا ولا تفض الشركه وعندما يكبر علمه وأتخذه شريكا معك بدلا منى وكن وفيا لى ولا تطلعه على الماضى بما يحمل وأوصيك به وأوصيك بنفسك عد الي الله يا فؤاد وطهر نفسك وبدنك فكما ترى ليس فينا سوى جسد يرقد سريعا وأعمالنا كلها تصادر الى الآخرة .
- قال فؤا د وهو يرتجف من كلمات صديقه كأنه يودع الحياة وهو الذى لايريد ان يقتنع بذلك .
- لا تخف يا ماهر وثق بى الا أنك أنت الذى ستستمر معى
- أعلم يا صديقى أنك ستكون وفيا لي فأنا أثق في ذمتك فما رأيت أطيب ولا أنزه منك يا فؤاد
- ستنهض معافي بإذن الله يا ماهر
قال ماهر والدم يسيل من بعض أجزاء جسمه تحجبه الضمادات
ـ لست حزينا يا صديقى فأنا أموت بثوبى الأبيض أني ارى خيرا لست حزينا بل إنى أُزف ها هو ثوبى قادم الى أفسح له الطريق أفسح ودعنى أنطق الشهادة فما بقى لى غيرها أن أشهد أن لا إله إلا الله هو الغفور ذو الرحمة وحده لا شريك له اتركنى أذكر الله وأخرج يا فؤاد وطلب ممن حوله قائلا ساعدوه اخرجوه من هنا فليس أصعب عليه من رؤيتى هكذا أني أعرفه كما أعرف عدد أصابعى .
وبالفعل خرج فؤاد وبقى خارج الغرفة لا يعرف كم مر من الوقت رغم انه بقى ست ساعات إلا أنها كانت قصيرة عليه من كثرة ما كان يحب أن يطول الزمن لكى لا يفارق ماهر ولكنه فقد ذلك كله عندما سمع صوت بكاء أهله وهم يخرجون من الغرفة فنهض مسرعاً ليحدق فى وجه صاحبه لتكون النظرة الآخيرة إنها المرة الأولى التى يري فيها عبارات الموت أنه أصعب بكثير مما سمع ومع من مع أعز الناس لديه
وبات ليله ينتظر خروج جثمان صاحبه حتى صباح اليوم التالى أخذت مراسم الجنازة مجراها الطبيعى فى هدوء كأنها الرحمه والسكينة التى نزلت على أهل ماهر حتى دخل قبره وأنصرف الناس وحتى تفرق الجمع كله ولكنه ظل بجانب القبر واجماّ ينظر إلى القبر وقلبه يعتصر حتى أمسكت به يد تساعده على النهوض كان رجلا شابا قد يكون من أهل ماهر أو لا يكون لم يكن فؤاد يدرى شئ غير انه يحتاج من يساعده على الذهاب للبيت فما عادت لديه آيه قوة فقال له الرجل:ـ
ـ وقت قليل وندخل فى أعقاب المغرب أرجوك دعنا ننصرف أنا سأقود بك السيارة لا أظن أنك ستقوى الآن على قيادتها
نظر إليه فؤاد وقال وهو فى حالة تيه أنه سيكون وحده فى الليل كلنا نأنس بالحياة وهو فى ظلمة وحيداً كيف سأتركه وأذهب
- إنها مشيئة الله وهو في رحاب الله أكثر أنسا وأطيب مكانا بل نحن فى وحشه وغربة فمن فارق الحياة مبتهجا بلقاء ربه فهو فى السراء ياأخى أن للطيبون ملكات خاصة عند الموت فلو كان من المغفور لهم فقد نال أنس الملكوت الأعلى ولو أتيت له بذهب الأرض ومباهجها مقابل أن يعود فسيأبى العودة خاصة من كانت خواتيم أعمالهم صالحة فالله يغفر الذنوب لمن تاب ولمن عمل صالحا أن يبدل سيئاته حسنات ثم عندما يفارق الحياة يتنعم حتى يوم الحساب العظيم وذلك فى قوله تعالى (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون )
شعر فؤاد بإرتياح لسماع هذه الكلمات وقال للرجل :
ـ ما هو البرزخ ؟
- انه مكان المغفور لهم فى الجنه يستأنسون به من وحشة القبر يشمون رائحه الجنه ويشعرون بالفرح بعد الذهاب إليها بعد الحساب إنها نعمه الله لعباده الصالحين عسى أن يغفر لنا وله .. أطلب له الرحمة دائماً.
قصد فؤاد بيت أمه بمعاونة الرجل الذى ساعده حتى وصل الى باب المنزل فوجد فؤاد نفسه يطرق الباب بشدة وكأنه خارج عن الوعى وهو يقول ـ
افتحى لى الباب يا أماه .. افتحى يا أماه . فتحت الأم الباب وهى فزعة فوجدت ابنها كالخارج من النار وجهه كالجمر فأهمها ذلك وهى تسأله فى فزع
ـ ما بك ؟ ماذا أصابك من جديد ؟
لم يرد عليها فؤاد ومرة أخرى ارتمى عند قدميها مغما عليه .. ولم تجد جوابا إلا عند الرجل الذى كان معه
- لقد توفى صديقه ماهر .
وهنا أجهش الرجل بالبكاء كأنه يحبس مشاعره بسبب فؤاد .
قالت الأم والحزن اوقفها ـ " اه لو تعلم كم ستكون هذه الأزمه شديدة على ولدى وكأنه اليوم فقد كل شئ فى حياته
إنها الأيام الشديدة العصيبة على فؤاد وأسرته فلقد اصابته الحمى الشديدة والهذيان والأطباء يتوافدون عليه وجده يرفض رقوده بالمستشفى يصلى بجانبه حزين عليه يطلب من الله العون له وقد طالت أيامه وهو كلما أستفاق وعاد الى صوابه يرفض الكلام والتعامل مع الحياة .. كانت أمه كلما إنفطرت عليه تقول له يا فؤاد ولو كنت بخير هز لى رأسك . فيهز لها رأسه ويكتفى حتى أحس فى يوم بحركات اصابعه ووهن جسده فشعر أنه يعود للحياة شيئا فشيئا .. ثم شعر بالنعاس الحقيقى ورغبة أكيد فى الراحه وعندما أغمض عينيه  شعر بشىء عجباً
دب النشاط فى جسده كله وكأنه يتحرك إلا أنه فاقد التميز أهو نائم أم يتحرك فعلا كأنه ما بين اليقظه والنوم حتى أحس بالشيخ ورائحته العطرة تفوح حوله والذى أمسك بيده قائلاً
ـ تعالى معى يا بنى
وسمع فؤاد صوته وهو يقول له إلى أين ؟ قال الشيخ " إليك يا فؤاد هيا معى "
فقام معه فذهب به إلى حيث ذهب حتى وصل عند حافه طريق وعلى مرمى بصره رأى ساحه أخرى خضراء من نور فيها رجل قائم يصلى هاديئ النفس .. يتخلل الهواء الطيب ثيابه فيهفو على صاحبها كأنها تعده للطيران وكأن المساحه التى فيها فؤاد والشيخ قد اقتربت وأصبحت كأنها والآخرى نصفين نصف يابس ونصف أخضر والتى بها الرجل ....وراقبه فؤاد حتى انتهى من صلاته ثم جلس هادئا ينظر فى ملكوت الله فسأل فؤاد الشيخ من هذا الرجل ؟

ـ ابتسم الشيخ وقال إنه أنت ي فؤاد
ـ ولكنى لست كذلك فى عبادته مع انى أحب التأمل مثله الا أنى كنت أجهل ملكوت هذا التأمل
قال الشيخ مشيراً الى ما وراء الرجل :ـ أنظر يا فؤاد ما وراءه
فنظر فؤاد ليجد مدينة متقنة البناء فقال له الشيخ
ـ انه بنيانك فيما بعد انه نصفك الثانى الذى ستسعد به الشطر الذى لا تعرف عنه شيئاً ويعلمه مولانا وخالقنا فهو مقدر ومكتوب عنده
ـ لم افهم ايها الرجل ماذا يعني ذلك.
ـ كل وقت وله آذان
فعندما سمع ماهرآاذانه استجاب غير مبالي بالدنيا فادرك الحقيقه فخر لله تائبا.
قال فؤاد و حزنه يغلبه ـ اني حزين لاجل صديقي
ـ و لما الحزن يا صاحبي
وكأنه سمع صوت ماهر وراءه فلما استدار وجده و كأنه هو مبتسما هادئا فكاد ان يسرع اليه الا انه ابتعد عنه وهو يقول
ـ ليس بعد فالتنتظر ما كتبه الله لك..الا ترى قميصي وقد فاض من جسدى .. أنا احيا هنا حياة طيبة كلى حواس جديدة وارتباط شديد بهذه الحياة فالألوان هنا لها رونق أخر
وسمع فؤاد صوت الشيخ وهو يقول ..صدق الله وعده التائب من الذنب كمن لاذنب له ..ولو أدركنا الحقيقة وخضعنا للطاعة والامتثال لأمر الله لماحزنا أبدا على ماسنفارق عليه الحياة كل شيىء وله نهاية وفى نهايتنا بداية لو أحببنا الله وأطعناه كما يجب
التفت فؤاد إليه فرفع الشيخ إبريق من نور كان فى يده وقال
إحنى رأسك يافؤاد أغسلها لك بهذا الماء ففيه شفاء لك بإذن الله فأحنى فؤاد رأسه ليصب الشيخ عليه الماء وهو يقول
ـ قل معى ( أشهد أن لااله الا الله وحده لاشريك له وهو على كل شيىء قدير  )
فردد فؤاد الشهادة وما كاد ينتهى حتى سمع صوت الآذان يرتفع فقال الشيخ
ـ قم لنصلى جميعاً لله
فصلى فؤاد مع الشيخ والرجل الذى فى الشطر الآخر حتى أنتهوا من الصلاة فقال الشيخ وهو يبتسم
ـ حمداً لله على سلامتك يافؤاد الأن إمضى بسلام من الله وكلما أصابك غم قل (إنا لله وإنا اليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ) صدق الله العظيم


ما كنت أعلم أن في حزنى طريق إليكِ .. فلما علمت عشقت حزني وكل شئ قادني إليكِ .. فكنت أبحث عنك في عيني كلما نظرت من خلالها أجدك .. وكلما وجدتك أشعر بأنني أتوه توهان التلاشي أتوه معك في عالم طالما حلمت به رغم عصياني وكأنك جزء لا يتجزأ من تركيبة هذا الكيان .. يا من أنت في عيني لا تفارقيهما فإذا كنت قربي أسعد برؤياك وأن كنتِ بعيدة عنى سأظل أعمل جاهداً للقياك

الشطر الثانى
فى لحظات السكون والترقب على عائلة فؤاد التى تنتظر صحوته ، كانت هذه اللحظات فى إحساس فؤاد من أشد اللحظات التى مرت عليه حتى صحا من نومه ليرى نور الشمس وها هو كالمولود يغالب الضوء حتى يألفه ويمتزج بالحياة .. فرأى وجه أمه فقال لها:
- أماه خذينى بين أحضانك
ضمته أمه إليها وهى تقول :
- حمداً على سلامتك ، أراك بخير الحمد لله
- نعم أنا بخير
- لا بأس يا حبيبى – حمداً لله
و أقبل جده وقبله بين جبينه فى صمت كأنه يشد من أزره فقال له فؤاد :
- و كأننى عائد من رحلة شاقة و طويلة يا جدى لأول مرة أذوق مرارة الحسرة ، فقدانى لماهر جعلنى أشعر بفقدان نصف حياتى
لم يجاوب الجد بشيء حتى لا يرهقه بالحديث أكتفى بهز رأسه وابتسامة مواساة .. وتركوه يستعد مع نفسه لا يباشرانه إلا من خلال طعامه ومتابعة علاجه حتى بدأ ينهض من هذه الوعكة معافاً.
فى هذه الأثناء كانت الذكريات تأخذه من وقت لآخر مع ماهر وأيام الشباب و المرح واللعب و المحاورة وهما يتشابكان ليغزوان عالم التجارة والنجاح و الكفاح عبر هذه السنين الطويلة كان يتذكر كل شيء طيب يربطه بصديقه إلا شيء واحد ، هو هذا الماضى المؤسف كأنه لا يريد أن يخون العهد الذى بينه وبين نفسه ، فهو وعده ألا يذكر هذه الأيام ثم تذكر أحمد وشعر أنه يشتاق لرؤيته كما أنه يشعر بالحزن تجاهه كلما تذكر أنه سيكبر فاقداً أباه وهو الذى عانى من هذا الإحساس .. كان يقضى معظم أوقاته هكذا ما بين البكاء منتحباً فى ظلمة الليل وأحياناً ينام دون أن يدرى.
كان جده يراقبه من وراء الباب ليطمئن عليه و كلما حاولت أمه الدخول عليه وهو فى هذا الحال يمنعها أبوها قائلاً :
- دعيه يا أم فؤاد ، إنه يغسل نفسه .. إنه سقم النفس والشفاء يتم بتطهيرها ، اتركيه عسى أن تكون هذه الأيام هى بدايته للحياة.
و لكنها أوقات لم تدم طويلاً كسرتها أم فؤاد وهى تحرك يديها على كتفه قائلة :
- هناك ضيف يريد مقابلتك
قال لها بعينين مجهدتين :
- لا أستطيع مقابلة أحد يا أماه
- إنه قريب لماهر رحمه الله
إنتفض فؤاد من مكانه قائلاً:
- هل معه أحمد ؟
- أحمد من يا ولدى ؟
- ابن ماهر
أشفقت الأم عليه و قالت:
- ربما جاءك بأخبار من عنده ، هيا لنستقبله
و أخذت بيده تساعده على الذهاب لضيفه .. فقام الضيف واستقبل فؤاد بابتسامة يرد بها على تحية فؤاد له و قال بصوت مهذب هادىء:
- أنا من أوصلك هنا يوم عزاء السيد ماهر رحمة الله عليه .. لقد جئت لأطمئن عليك
شكره فؤاد ودعاه للجلوس و ظل يتأمله إلى أن قال الرجل وهو يقدم نفسه:
- أنا إسمى "بهاء" إبن عم ماهر رحمة الله عليه ، أنا أصغر منه بثلاث سنوات تقريباً وكنا أصدقاء أعزاء إلا أن طريقنا كان مختلف فى مجالات الحياة ، ثم سمحت لى الأيام أن أجده مرة أخرى معى دوماً خلال السنتين الأخيرتين بعد فترة شرود فى حياته وحتى أنعم الله عليه بزوجته واستقراره ... وكم عز علىّ فراقه
- أهلاً بك وأشكرك على معاونتى .. و هل لى أن أسأل عن حال أسرة ماهر وولده
- لا يقل حالهم عن حالك فالكل فى حزن عميق ، ولكن إبتسامة أحمد تهون على الجميع
وأحس بهاء بإختناق العبارات وهو يواصل كلامه:
- كأنه كان يشعر بأنه مفارقنا قريباً فأسرع بزواجه وأنجب أحمد ليترك لنا ذكرى هى امتداد لوجوده
قال فؤاد:
- كان الله فى عون الجميع
- وعونك يا سيد فؤاد ، ودعنى أكون لك عوناً فى شيء تحتاجه.
لم يكن لدى فؤد رغبة إلا فى مقابلة أحمد ومواساة هذه العائلة الحزينة .. وانصرف بهاء بعد أن وعده أنه سيأتى غداً ليصحبه إلى هناك .. و تعلق فؤاد بهذا الأمل ، وهو يتجول فى بيت جده الذى وجده يصلى كعادته فى ركنه الخاص بالصلاة والذى لا تفارقه سجادة الصلاة .. وهنا تذكر الشيخ الذى صلى معه فى منامه وهفت نفسه لمثل هذا الوقت ، فاقترب من جده وجلس الى جواره حتى أنهى صلاته وحياه ثم قال :
- غفلت عن الصلاة سنيناً طويلة يا جدى .. أجل ، منذ ان خرجت من هذا البيت وأنا فتى شغلتنى الأحلام والطموحات والمباهج و عبس الليالى .. وكان عقابى أنى تهت فى بحر الغفلة وضللت شاطىء نجاتى ، كأنى كنت أبحر فى قارب وأنا أظن أنه سفينة بها كل ما أحتاجه تغنينى فى رحلتى .. ولكنى وجدتها قارباً كاد أن يتهشم عندما هاج البحر وأنى لأصدقك القول يا جدى أننى كلما اختليت بنفسى فى الماضى كنت أشعر بتمزق كل شىء بى وأسأل نفسى لماذا أنا هكذا .. ولكنى لم أجد إجابة ، ولم أكن أعلم أننى تركت الطريق الذى فيه كل النعيم والخيرات ، تركت طريق الطموح إلى الله فى أى شىء .. وأنت علمتنى وأنا صغير أن أعظم طموح هو الوصول إلى مرضاة الله وطاعته .. والآن وبعد كل هذا من أين أبدأ يا جدى...
إبتسم الجد وقد أشرق وجهه ، ثم أخذ فؤاد من يده ونهض به وقال:
- تبدأ من هنا ، من على هذه السجادة .. تقف مع الله فى خمس أوقات وفى جوف الليل تغسل نفسك وتجدد إيمانك وتشد أزرك
واتجه به إلى غرفة المكتب حيث التجمع الهائل لحصيلة هذا الشيخ ، والاعتكاف على قراءة الكتب والإجتهاد فى العلم .. وقال لفؤاد:
- هنا غذاؤك .. واكسير حياتك هنا توجد كنوز الدين والدنيا ، وأنت ينقصك الكثير .. وما حدث لماهر يقول لك إنقذ نفسك قبل فوات الأوان أنت حققت الكثير من النجاح فى عملك فلا بأس من وقت تقضيه لتتعلم فى أمور الدين والدنيا من رسالات سماوية وتاريخ الأديان و تاريخنا و معالم الأمم الحاضرة والماضية .. وتتعلم من قصص النبلاء من الأنبياء والصحابة وأهل العلم والمعرفة .. وأعلم أن أول أمر إلهى نزل على حبيبنا المصطفى صلوات الله عليه كان بكلمة "إقرأ" ... إنها هدية أوصلها جبريل لمحمد من رب العالمين ، ففتحت له أبواب الخير الذى يفيض على الدنيا كلها ، إقرأ يا فؤاد فسوف تنهض معافاً بإذن الله.
لقد كانت كلمات الجد هى بداية البلسم الشافى ..
وعاد  فؤاد من زيارة أحمد وأسرته الحزينة ليحاول أن تمر هذه الأيام وقد أنجز شيئاً ...
وتوالت زيارات بهاء له وكان الحديث يطول بينهما ، فبهاء رجل مثقف له قراءاته المتعددة و كان فؤاد يستمتع معه بهذه المعرفة .. كما أن بهاء كان يتعمد إصطحابه فى نزهات قصيرة كرياضة المشى ليخفف عنه أعباء التفكير ، حتى أحس فؤاد بالارتياح وأنه أصبح مرتبط ببهاء فى أشياء كثيرة
وفى إحدى النزهات فاجأه بهاء وقال له :
- الآن أصحبك إلى بيت عمى .. أسرة ماهر ، فهم فى انتظارك لأمر ما.
إنها المرة الثانية التى يذهب إليهم وقد تعمد ألا يزورهم بعد أول زيارة لما وجده من صعوبة حالهم لفقدان عزيزهم إلا أنه اطمأن هذه المرة فبهاء رجل ذكى ، لابد وأنه أدرك أن مرحلة الهم قد خفت
وبالفعل كانت الأسرة أفضل حالاً فلقد مضى على الحدث ستة أشهر ليجد أحمد قد كبر قليلاً عن المرة السابقة .. أخذه بين يديه يقبله وهو يشم رأسه وكأنه يأنس كل جزئية من حياة ماهر .. ويداعبه فى مودة ..
ثم إتجه إلى زوجته وهى السيدة التى علمت صديقه أن يكون رجلاً عن حق وقال لها :
- سيدتى كان زوجك بالنسبة لى نعم الرفيق والأخ ، وكانت شركتنا على مدار السنين تتميز بالبناء والعمل الجاد ، وستظل لهذا الطفل إن أحببتى الاستمرار فى هذه الشركة وأنا مستجيب لكل طلباتك
قالت السيدة بأسلوب مهذب:
- الشركة كانت بينك وبين زوجى وستظل لإبنى أحمد حتى نصيبى لن أستقل به ، إنها رغبة ماهر وعلينا أن نلتزم بها ... وأنا أتمنى أن يتعلم إبنى مهنة والده .... فهى أمانة فى عنقك كما أخبرك قبل أن يموت .. أنا أؤمن بقضاء الله وأصبحت لدىّ أغلى رسالة ، هى تربية أحمد تربية ترضى الله فى علمه وعمله .. وأولاً وأخيراً عبادته .. وأنت ستساعدنى فى هذه الرسالة عندما يدرك ويتعلم مهنة أبيه والتى هى مهنتك
قال فؤاد
- ثقى يا سيدتى بأننى سأكون محل ثقتك و سأصون هذه الأمانة ببذل كل ما فى وسعى حتى تنمو هذه الشركة أكثر وأكثر بإذن الله كما لو كان ماهر معنا .. و لكن لى طلب عندك
- ما هو ؟
- أريد أن لا أنقطع عن رؤية أحمد فسآتى برفقة أمى من وقت لآخر لأراه لو تكرمتى علىّ
فكان رد السيدة مفاجئاً له:
- بل ستصحبه معك من وقت لآخر وسأعتبر والدتك جدته فأنا أريده أن يعتاد عليك حتى يستجيب لك فى المستقبل وحتى يأخذ من طبائع عملك
أحس فؤاد بنبضات قلبه والطفل يمسك أصابعه بيده الصغيرة وشعر بالسعادة من ثقة هذه السيدة الفاضلة ، ثم أخرج من حقيبته أوراق وقال:
- هذه الأوراق هى كل المعاملات المادية التى تخص ماهر أتيتك بها لتراجعيها ، وهذا دفتر شيكات لسحب ما تحتاجين إليه ... هذه المبالغ كانت نصيبه من العمليات التجارية الأخيرة ، وكانت ما زالت لدى ، أودعتها فى البنك بإسمك لسحب ما تحتاجين إليه أما بقية ما تحتجزه البنوك الآن ، فهى تابعة للقسمة الشرعية بينك وبين أحمد ووالدة ماهر .. وحتى تنظموا هذه الجولة بينكم سأستمر أنا فى إنهاء بعض العمليات التجارية الأخيرة لنبدأ مرحلة جديدة
قالت السيدة :
- سننهى إجراءات الميراث وسنضم حقنا من جديد بالشكل القانونى المناسب.
ثم أنهت السيدة الحديث بأدب واتجهت نحو بهاء تسأله :
- كيف حال خالتك الآن يا بهاء ؟
رد عليها بشكل سريع
- حالتها سيئة للغاية منذ أن وصلت من فلسطين .. لا تكف عن الحديث المؤلم تعانى كل الذكريات ... ولكن كل يوم أذهب إليها لأقضى لها كل ما تحتاجه
قالت السيدة :
- و"وجدان" ، كيف حالها الآن ؟
- حالتها لا تقل عن حال خالتى ... لست أدرى هل فقدت النطق أم أنها نسيت الكلام من كثرة صمتها
- يؤسفنى ذلك يا بهاء ولولا ما حدث لنا ما كنت تركتها
- كان الله فى عونك وعونهم وعون الجميع .. إننى مسئولٌ عنها
- جزاك الله كل خير يا بهاء ، أنت شاب مهذب وتستحق كل تقدير واحترام
- أشكرك يا سيدتى .. سأذهب إليهم الآن إن لم ينزعج فؤاد من مرافقتى
فقال فؤاد وهو لا يفهم شىء غير ما دار من هذا الحديث القصير :
- أبداً ليس فى الأمر إزعاج ، سآتى معك
خرج الصديقان الجُدد من بيت ماهر ، وفؤاد مرتاح من هذه الزيارة الطيبة .. ويسعد أكثر بأنه سيستقبل احمد فى بيت جده الذى تربى فيه ، ويحلم ماذا سيقدم له ...

حتى أخرجه بهاء من أحلامه قائلاً :
- فؤاد ، حتى لا أقيدك معى يمكنك أن توصلنى معك إلى البيت وكفى عليك اليوم
- لا يا بهاء ، سأظل معك .. أنا أشعر بالنشاط اليوم بل إنى أشعر بالراحة والسعادة وأنا برفقتك فلقد خففت عن كثيراً خلال الأشهر الماضية ، لقد تعودت على مجيئك إلى وصحبتك لى
إبتسم بهاء وقال:
- البركة فى جدك وكتبه ، هى التى أطالت الأحاديث والزيارات
- نعم جدى رجل كله بركة .. وهو يحبك
و انطلق الصديقان فى لحظة رضا حتى وصلا إلى بيت خالة بهاء .. ودعى بهاء فؤاد ليزور خالته المريضة .. فاستجاب له فؤاد وهو يتأمل هذا البيت القديم المكون من ثلاثة طوابق تحيط به حديقة شبه جرداء ، يكاد يكون منعزلاً قليلاً عن عمارة المكان... وقبل أن يدخل المكان ، قال بهاء لفؤاد:
- عفواً يا فؤاد ، فخالتى أيضاً تقع تحت تأثير حالة الحزن ، فزوجها توفى منذ شهر فى فلسطين
قال فؤاد متعجباً:
- وما الذى جعله يذهب إلى فلسطين
- إنه أصلاً فلسطينى ، أما خالتى فمصرية ولها قصة طويلة .. موجزها أن خالتى أنجبت ثلاث بنين وبنتاً ولم يبقى من العائلة غير خالتى وابنتها "وجدان" والحزن يخيم عليهما من كافة النواحى
أحس فؤاد بصعوبة الظرف وقال لبهاء :
- إنه فعلاً أمر صعب
و قصد مع فؤاد البيت حتى وصلا إلى الطابق الثالث ، وطرق بهاء الباب ففتحت له السيدة فدخل وهو يقدم لها فؤاد قائلاً:
- أنه صديق عزيز يا خالة
لم تعلق السيدة غير أنها ألقت على فؤاد التحية و لما جلس فؤاد أحس بموجة الاكتئاب من حركات السيدة وتعبيرات وجهها .. ومن البيت الساكن والإضاءة الخفيفة .. ومع ذلك تبدو له سيدة شديدة ، بها لمسة من جمال رغم أنها تقترب من الخامسة و الخمسين ... ومع هذا فرداؤها الأسود يظهر جمالها المختبىء وراء عبارات الحزن و السكون
وفى هدوء نادت السيدة على إبنتها لكى تستقبل ابن خالتها بهاء
وبعد فترة قصيرة
أتت ذات الملامح الشامية تمشى فى هدوء وحرص ، بقامتها الطويلة الرشيقة و بشرتها الحمراء وشعرها الكستنائى اللامع الذى تتخله خصلات ذهبية مضيئة .. أتت تمشى فى انكسار رغم كل هذا حتى اقتربت منهم وكأنها تجاهد نفسها لكى ترحب بهم ..
ألقت التحية وجلست ترد على بهاء الذى يسألها عن حالها و أنه أتى لها بكل ما طلبته .. من أوراق للكتابة وبعض الكتب التى تحتاجها .. فشكرته
ثم عاود المكان صمت مميت كان فؤاد خلاله يتأمل الموقف فى حرج ، خاصة و هذه الفتاة التى شردت بعيناها الحزينتان كأنها تسافر المسافات و تخترق حواجز الكون لتجلس فى محراب يطل على عالم هى وحدها صاحبته ، إنها عينان تحملان آنات وانكسار ومعانى أخرى عجز فؤاد على أن يفهمها وهو الذى اشتهر بالخبرة والدهاء فى عالم المرأة .
و مع كل هذا اختفت من أمامه فجأة ...
وانشغل فؤاد ببهاء مرة أخرى فى جلب بعض الطلبات التى تحتاجها الخالة ، ثم عاد معه ثانية إلى هذا البيت الكئيب و كأنه أحب أن يثبت وجوده فقد يتثنى له أن يسمع ما لم يستطع فهمه من خلال هذه الزيارة و لكن دون جدوى ..
صمت تام بلا حراك
حتى وقعت عيناه وهو يغادر البيت على المهاجرة من أرض الواقع إلى حيث لا يدرى ... عندما وجدها فى ركن صغير جالسة على شلتات عربية متراصة كإنها إقامة خاصة ولم يشعر إلا وهو يتجه إليها وهو يمد يده يسلم عليها ويستأذنها فى الانصراف .. فمدت يدها فى تردد ثم سرعان ما شدتها من بين يديه وحولت عيناها من جديد إلى حيث كانت تنظر من خلال هذه النافذة الزجاجية المستطيلة والممتدة حتى مستوى نظرها
حيث تطل على فراغ ..
فماذا ترى ؟ ...
و كأنها أحبت أن تبقى فى عالمها بلا أى تدخل لتعود إليه من جديد ، فقد يكون عزاءاً .. وقد يكون .. وقد يكون .. ، كلها أسئلة انشغل بها فؤاد وهو فى الطريق حتى سأل بهاء:
- خالتك وابنتها يخيم عليهما حزن شديد ، أظن أنه أشد من الحزن على الميت
تنهد بهاء وقرأ ما فى نظرات فؤاد:
- تقصد "وجدان" ؟
- أجل .. ( قالها بلهجة آسفة )
- إنه الجرح الذى هو أشد من الحزن بكثير وأكثر مما تتصور ، إنه ما وراء الستار لأننا عاجزين على أن نفتح الستار لعرض الأحداث بحرية ... فلا نعرض إلا أقل القليل .. تخاف الدولة أن تهاجم الناس عاصفة من مشاعر السخط و الانتقام والثورة على إهدار الكرامة ... مشكلة العربى أنه يدور حول نفسه فى نسيج نسجته لنا دول الغرب كأنه خيوط العنكبوت حتى حولت أبصارنا عن الحقيقة إلى تلك الخيوط الواهية التى تخيفنا رغم وهنها وضعفها أمام نفخة قوية قد تمزقها تمزيقاً .. فشغلتنا عما هو أخطر وأعظم ، شغلتنا بالأزمات الإقتصادية وأقمارها الصناعية والتقدم العدوانى الذى يجتاحنا من كل طريق كأنه بركان يهجم علينا ومن هذا كثير ...
أوقف فؤاد السيارة فى مكان هادىء وقال لبهاء فى جرأة:
- لست أدرى .. عندى فضول لسماع هذه الأحداث .. أعذرنى على تطفلى
تردد بهاء قليلاً ثم قال:
- عدنى يا فؤاد أن تكون هذه الأحداث سراً بيننا فما أطلع أحد عليها هنا غيرى ، وهذا لأنى قريب من خالتى وما حدث لها خلال هذه السنوات الطويلة
قال فؤاد متلهفاً:
- أعدك يا بهاء بل ، إنى أعاهدك على ذلك
- وأنا أثق بك
اعتدل بهاء يحكى قائلاً:
- منذ زمن كانت خالتى تتمتع بأشياء كثيرة حسنة ، أولها أنها من أسرة محترمة .. فلقد كان جدى رجلاً قوياً شديداً وحريصاً على بناء إسم عائلته، وكان من أصحاب الأملاك حتى أصبح له صيت محترم بين الناس .. وقد ربى أولاده تربية حسنة وخالتى ورثت من طباعه الكثيرأما الأشياء الأخرى التى ميزتها و جعلتها تظهر من بين أولاده جميعاً هو ذكاؤها وجمالها وشخصيتها الجذابة ، مما جعل أنظار الكثيرين تصوب إليها لطلب بيدها ..إلا أنها أحبت شاباً فلسطينياً كانت أسرته مستقرة فى مصر .. من ضمن الأسر التى لجأت لمصر على مر زمن الغزو لفلسطين .. وكان شاباً فريداً أيضاً ، حيث أنه كان يحمل لواء حرية خاص به بعيداً عن أن يكون لجيئاً مختبئاً هاجراً لأرضه وقضيته ، كان شديد الحماس للرجوع إلى الأرض لأنه ينفر من فكرة هجران الأرض تحت أى ظرف
وقد كان يقول " كنت صغيراً عندما هاجرت أسرتى بى .. ولو كنت وقتها ملك نفسى لما تركت شبراً منها ، إنها تلازمنى فى يقظتى و أحلامى كأنها نصف روحى التى أحياها "
هذه الطموحات جعلت خالتى ترى فيه ما لم تراه فى غيره ، فأصبحت مثله تحمل حماساً وتشد من أزره وتؤيده .. حتى أحسا أنهما قضية واحدة ، وأنهما لا يمكنهما الفراق أبداً ..
كان حباً من نوع فريد .. فمن الصعب أن يأتلف قلبان عاشقان لقضية وطن ترفع من المشاعر لتصنع حباً هو أقوى من حب غريزى بين رجل وإمرأة
إنها فى نظرى من قصص الحب التى تدوم حتى بعد أن تنتهى حياة الإنسان ..
وهذا ما حدث ... وهنا لم يجدا بديلاً إلا الزواج ، إلا أن جدى رفض هذا الزواج بشدة بحجة أنه مشتت لا يحمل معه غير أيامه المتنقلة .. وكيف ذلك وهى الإبنة المدللة لديه والتى كان يأمل أن يراها ذات شأن ... !
ومع ذلك أصرت خالتى على الزواج منه ، معارضة رغبة الجميع .. إلا أنها لم تتعدى الأصول فى إتمام هذا الزواج

فكانت النتيجة أنها مرضت حزناً على هذا الرفض بعد أن أضربت عن الطعام حتى كادت أن تسقط بين يدى جدى فوافق تحت هذا الضغط ..
وتم الزواج لتشاركه الحلم فى العودة إلى الوطن راضية بكل المخاطر .. لأنه ربى لديها عشق القضية

وبعد محاولات للعودة ، عاد بها إلى أرض أجداده وعاش فيها دائم الجهاد و المجاهدة بنفسه فى أن يظل يعمل ويكد ويسعى لبناء نفسه هناك لكى لا يضطر للهجرة و اللهث وراء المال مدى الحياة ...فقد كان لوائه ابنى ولاتقتل ازرع ولاتتحمس لجماعات سياسية لها اغراضها الخفية . فالخير هو من يعمر الارض ويحفظها .

وهناك أنجبت خالتى أولادها الأربعة ، كانت "وجدان" هى الوسطى مع توأمها وجدى ... و لقد تربت "وجدان" فى فلسطين حتى بلغت الثانية عشر
هنا تعرضت الأسرة لنكبة شديدة حيث تهدم البيت الذى كان يأويهم إثر الهجمات ، وخسر الأب مصدر رزقه .. فرحلت الأسرة إلى لبنان ليطلب والدها الرزق المؤقت ليعود من جديد ويبنى بيته ويستصلح أرضه
وكانت الرحلة شاقة فى ظل البحث عن المال لأصحاب قضايا لا يحتاجون إلا القليل خاصة وقد كانت العائلة مركبة ، حيث رحل مع والد "وجدان" أخوه بأسرته لنفس السبب .. فكونا عائلة واحدة وحياة مشتركة ..

إلا أن العدة كانت تعد لغزو لبنان وكانت الضربة القاضية والتربص العدوانى لكل فلسطينى .. والخطة المحكمة لإبادة اللاجئين فى أى مكان على يدى الميلشيات والطوائف ... وكانت مذبحة "صبرا وشاتيلا" هى ناتج هذا التآمر العدوانى الشديد ...
كانت حياة شديدة لمن عاشوا ونهاية حزينة لمن ذبحوا فى هذه المذبحة داخل المخيمات
وفى هذا الوقت كانت "وجدان" فى الخامسة عشر من عمرها تدرس فى المرحلة الثانوية بنباهة وذكاء يميز غالبية الفتيات الفلسطينيات فى شتى الدول ، كما تعملت مبادىء التمريض وكيف تحمل سلاحاً .. وهنا كان دورها مع إبنة عمها للتطوع لمساعدة الناجين من هذه الضربة القاضية ...
حتى جاءت ليلة مشئومة قصف فيها المخيمات التى يسكنها والدها وعمها وكل عائلتها وفقدت العائلة عدداً من أفرادها حيث فقدت أخيها الأكبر واثنين من أولاد عمها وجيرانها وفرالقليل بينما احتجزت هى فى المستشفى بسبب ما حدث ولسوء الظروف التى وضعتها فى هذا الموقف
حتى جاءت ساعة الخزى ...
وهاجمت جماعة من المعتدين مبنى المستشفى ، فقاموا بقتل المرضى والأطباء .. ثم اغتصبوا ملائكة الرحمة بوحشية وقذارة ، وكانت " وجدان " من ضمن هؤلاء ...
فلقد رأت أبشع أنواع الاغتصاب والإهانة و انتهاك الحرمات .. فليس بقليل أن تشهد فتاة فى عمرها هذه الأحداث خاصة بعد ما لقت ابنة عمها حتفها بطلقات الرصاص أمامها ، لأنها بصقت عليهم فكان جزاؤها الموت ..
ثم أخذوا ملابسهم عمداً وتركوهم بلا ستر يحميهم ، فهم يعلمون جيداً ما يكسر العربى الحر من الداخل ...
وهم يحرقون ملابسهم أمامهم ويضحكون ويتركونهم عرايا وهم يتمنون الموت أرحم لهم ...
إنها لغة الاحتلال السائدة وهم يستغلون الاشرار الذين يسكنون الاوطان ...
فقد كنت أسمع جدى رحمه الله وهو يحكى عن ظروف مشابهة إثر الاحتلال الإنجليزى لمصر .. وكثير من البلاد العربية عانت كثيراً من هذا الذل سنوات ..
ولا شك أنها الشدة عندما يرى الأب ابنته فى هذا الموقف
أحست "وجدان" بحالة توهان لما حدث ... ولم تستفق إلا بعد مدة طويلة من فزع هذا اليوم ... وقتها أحست بالفجيعة وهى إحدى من كانت معهم وهى تقول ...
" لقد أخذوا كل ما لدينا ، كرامتنا و أراضينا ولم يتركوا لنا شيئاً يسترنا من هذا البلاء حتى ملابسنا أحرقوها كما أحرقوا قلوبنا وقلوب أهالينا "
تذكرت جثة ابنة عمها على الأرض عائمة فى بحر من الدماء وأحست بخيبة الأمل التى تجتاح هذه الأمة ، خاصة عندما رأت أباها أمامها مع عمها و ابن عمها عندما هرعوا إلى المكان بعد ما سمعوا بالحادث ... كان المنظر شديداً مميتاً ، و يا ويل من يقف هذا الموقف من حرق الدم الحر
ولم يغادر ذهن " وجدان " منظر أبيها وهو يشق قميصه فيضاناً من حزنه كى لا يئن أمامها ، وجلس صامتاً فقلد جفت الدموع فى هذا الوقت .. بينما خلع ابن عمها قميصه ليغطيها ويحجبها عن أى نظر وهو يبكى حزناً على أخته الراحلة وابنة عمه الدامية..
ومن جديد رحلت هذه العائلة من مكان المخيمات .. هرباً من رائحة الموت التى تفوح من كل جانب فاقدين الأحباب والأقران والأتراب ، ومن جنوب لبنان الذى يحمل ذكريات مازالت محفورة حتى الآن
وفى هذه الشدة جاء عم " وجدان " وأخذها من يدها ووضعها فى وسط العائلة وجمع الذكور الباقية من أولاده وقال :
" لم يعد لنا عيش فى الحياة بعد ما حدث ... فلنعد أنفسنا الآن إننا من الأموات ، سنأخذ بثأرنا وندافع عن أرضنا وحقوقنا حتى نموت .. الحياة يا أبنائى ليست لنا .. نحن للجهاد بأنفسنا وكل ما نملك سنأخذ بثأر ابنتى وابنتك يا أخى ... سنأخذ ما أخذوه بالقوة بنفس القوة .. شرفك يا " وجدان " فى أعناقنا جميعاً أمانة حتى الموت "
ثم شد الرجل يد ابنه الأكبر ووضعها فى يد عمه وقال :
" إقرأ فاتحة ابنة عمك يا مازن " ...
فقال له الإبن بلا تردد :
" على بركة الله يا أبى "
قال الأب :
" إقرأوا جميعاً فاتحتين .. فاتحة للخطبة وفاتحة للدفاع حتى الموت ... قضيتنا أمانة فى أعناقكم وإياكم والتخلى عنها بعدنا ، فمن مات كان شهيداً ، ومن عاش فلا يفرح وليس عليه إلا الجهاد ممن يعتدون ويغتصبون الحقوق وماعدا ذلك فليس لنا امرة على الناس ولا اصلاح الا لأنفسنا واحذروا ان يستغلكم الساسة فى اغراضهم الخبيثة وعليكم تحرى الدقة قبل الحكم ولن تخلوا ايامنا من اغارة الاعداء واغتصاب الحقوق  ... تزوجوا احرارا و أنجبوا احرارا  .. أما حفل زواج "وجدان" ومازن لن يكون إلا بعد مانوفى هذا الحق .. وهو إهدار دم مائة من أعدائنا أمام دمائها و دماء ابتنى وعليكم بالتقصى فى مرتكبى هذه الجريمة حتى ينالوا عقابهم .
( ولكم فى القصاص حياة ياأولى الألباب لعلكم تتقون ) صدق الله العظيم
ثم رفع الرجل يده وقال: "من منكم معى" ..
قال كل الأبناء: "نحن جميعاً معك"
صمت بهاء قليلاً وهو تغالبه دموعه ثم قال :
و بعد هذا العهد ، رحلت العائلة وبعد عناء طويل وحين دخلت الأسرة مرة أخرى إلى الأرض المقدسة .. هنا انضم الآباء إلى الحركات الوطنية وكان لبعض الأبناء نصيباً منها و كان مازن و أصغر الأبناء فى حماية العائلتين و السعى على الرزق ومباشرة ما لأبيه وعمه
ومع الأيام فقدت العائلة بعض الأبناء إثر القيام ببعض العمليات الفدائية ، فقدت على أثرها " وجدان " أخيها التوأم و بقية إخوتها البنين وكذلك أبناء عمها .. ولم يحزن الأب ولا العم بل تمنوا اللحاق بهم شهداء مكرمين ...
ومع الوقت أصيب عمها بطلقات رصاص أفقدته إحدى رجليه ... ومع هذا لم ييأس فقد كان يحث الشباب على المواصلة حتى قامت ثورة الحجارة ليشارك فيها الكل ، حتى الأطفال دون الحُلم .. كان يحمل لهم الحجارة الصغيرة ويدربهم على الرمى عوضاً عن السلاح
ومن وقت لآخر يحمل فى يده بعض الرطب لـ"وجدان" كما كان يفعل وهى طفلة صغيرة يقدمه لها وهو يبتسم ويقول
"مهرك وصل أربعين ثم خمسين ثم سبعين" ...
ثم يعطها الرطب و يطيب خاطرها و كأنه يقول لها
"كلى واشربى وقرى عينا"
وكأن رطب الشام أصبح غذاء وتطييب خاطر لحزانى هذه الأرض .. عندما طيّب  الله خاطر مريم  ابنة عمران بقوله :
( ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سرياً * وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً * فكلى واشربى وقرى عيناً )
وتواصلت مسيرة الأيام رغم كل شىء .. ومنذ هذا الحادث وهى كما تراها الآن جسد بلا روح .. وازدادت إيماناً بقضية التمسك بالأرض والدفاع عنها ورفضت الرجوع إلى مصر تحت أى ظروف ما دام زوجها على قيد الحياة
وانتمت إلى هوية جديدة ، هى كونها عربية ، إنها لم تأتى بجديد .. فالمصرى ينتمى إلى عروبته بحواسه و إيمانه وقلبه وكل شىء فيه ، هكذا يقول التاريخ عبر الزمن فخيرة أجناد الأرض أساسها الانتماء .. لذلك صمدت خالتى أمام كل هذا العذاب وأخذت بيد ابنتها الجريحة قائلة :
"لا يفل الحديد إلا الحديد"
سألتها وجدان: "وما الحديد هنا ؟"
قالت الأم: "العلم"
إنها النصيحة التى داوت الكثير من الجروح .. والهدف إلى الوصول لدرجات الأرتقاء الإنسانى و المعنوى و الفريضة الواجبة على كل مواطن يريد أن يصل إلى الحرية
وهنا التحقت وجدان بكلية العلوم .. وكان والدها يأمل أن تصبح أستاذة جامعية نظراً لتفوقها ، إلا أن القدر لم يسعفه فلقد فارق الحياة .. وأحست خالتى بأنها فقدت كل شىء واشتاقت للعودة إلى الوطن لتسترد عافيتها
أما "وجدان" فبقيت على حالها .. فالصدمات لها نفس الرنين ، تحمل جبال الهموم و الأحداث و الذكريات
تنهد بهاء ليأخذ راحة ثم قال:
- تمنيت يا فؤاد لو أن لى ميكروفوناً .. وأزعق به فى الشوارع وأقول:
( أيها الخلق الغارقون فى النوم استيقظوا فهناك قضية أبناء أجيالنا ، فنحن لا نعمل شيئاً مما أوصانا به الله ، لم نعد العدة كما ينبغى حتى ولو فى أنفسنا .. فالعدة ليست بالسلاح وحسب ، إنما هى بالفكر والعلم و السيطرة على تربية أبناء هذه الأجيال وحمايتهم من هذه التيارات الزاحفة نحونا ، حيث تحمل عبثاً وجنساً وسموماً وأفلام للشياطين تتسلل من الجدران مستهدفة حرمات بيوتنا
فهم يهزءون بها منا ..
وانحنينا للمصالح ونسينا أن الانحناء لا يجب أن يكون الا لله وحده ونسينا أن العمل لا يجب إلا أن يكون لإعلاء كلمة الله .. ولم نسأل أنفسنا من نحن الآن ؟ ونحن نتقلد بتقاليدهم بلا إدراك فقد نكون نحن هم بالقناع الذى ألبسوه لنا دون أن ندرى ودسّوا فى رؤوسنا أنه ليس هناك حل لأى دولة تُحتل وكأن أبنائها قد فتحوا الباب لهم مرحبين بهم ، وكأن الغزو جاء خصيصاً ليرتقى بالعربى وينتشله من وحل عروبته ووطنيته وانشغاله بقضيته التى تجعل منه متخلفاً فى نظرهم وعبارات كثيرة تستر الاحتلال المقنع
ونحن انشغلنا بهذه الأساطير بلا وعى .. و أصبحنا أموات وراء الجدران التى ربما تهتز من ضربات الأبرياء أكثر من مشاعرنا ... عندما نشاهد على الشاشات جثث الشهداء وأطفال الحجارة ولطم الخدود والاستغاثة ودفن الأطفال ، ثم ندير ظهورنا كى ننسى ونستطيع معايشة الواقع ، وها هو الواقع .. ما رأيك فيه ؟
أحس فؤاد بدموعه دون أن يدرى وهو يقول:
- ماذا أسمع ؟ ياربى هذا كثير .. ولكنى عاجز عن أى قول ، إنك قلت ما لم أسمعه فى حياتى .. إنها أحداث بشعة !!
قال بهاء:
- إنها بكل أسف وصمة العار التى نحملها فى جبيننا مدى الحياة ، إنها ليست قصة بيت خالتى وحدها ، إنها قصة شعب بأكمله يعانى على هذا النحو .. ومن يدرى ..قد يكون دورنا قريب.
لم يكن بعد هذا الحوار أى تعليق آخر يذكر ..
اكتفى الطرفان بتحية الانصراف و أحس فؤاد بحرارة فى جسده وتوجه إلى البحر ليأخذ نفساً ، فهو لا يطيق الذهاب إلى أى مكانو جلس وقتاً يستعيد حكاية "وجدان" وهو لا يرى غير عيناها تتوسطان قرص الشمس الذى مال للغروب .. وكأنه أحس بأن هاتان العينان انذرفت منهما الدموع فأهاجت البحر وتلاطمت الأمواج وأحس برعشة داخلية فى حواسه وجسده عجز عن تفسيرها واضطربت أنفاسه وخفق قلبه ونهض مسرعاً وقد أحس بقدوم عاصفة
- أجل إنه قدوم العاصفة
إنها كلمات الشيخ وقد وجده من جديد فكاد أن يفر من أمامه
- لماذا تخاف يا ولدى ؟
قال وهو يرتعد:
- العواصف لا يُؤمن عواقبهاا .. قد تؤدى إلى الموت
- وقد تمر بسلام يا بنىّ .. دع قلبك يدفىء جسدك وستأمن منها
- وإن داهمتنى ؟!
- عليك بالجهاد حتى النهاية ، و إياك و الاستسلام عن ضعف .. فهو أشد من الموت
إلا أن فؤاد أحس أنه يريد أن ينصرف هذه المرة قبل الشيخ الذى يتركه دائماً على غفلة ، فقال له الشيخ :
- إذهب إليها ، فهى فى انتظارك .. قلقة عليك
- نعم يا سيدى أريدها ، فلم يعد لى غير أحضانها ومواساتها
وانصرف فؤاد ولم يسأل الشيخ هذه المرة ، كيف عرفت أننى أحتاج أمى ... ولم يسأل نفسه فقد آلف الحديث ولم يعد هناك مكاناً للسؤال .. لم يعد هناك مكاناً غير أحضان أمه التى ارتمى فيها كأنه طفل يحتاجها بشدة ، ثم سألها سؤالاً كثيراً ما لمحت به وهو يتجاهله
- كيف حال المرأة عندما تشعر بالظلم والقهر ، وسلب كل ما لديها
قالت وهى تسأله بعينيها ( ولماذا هذا السؤال اليوم ؟! )
ثم قالت بصوت مسموع :
- تشعر بإحساسين كلاهما مُر ..بالانكسار من ناحية والضعف وصدمة المشاعر من ناحية أخرى ، وهذا يؤدى بها إلى شيئين .. إما أن تعيش حياة القوة الوهمية وتتحول إلى شخصية عدوانية وهى تحمل ما بداخلها ، تفتت كل جزئية بها حتى لب العظام وإما أن تنفصل عن الحياة وتصيبها البلادة وتعيش كما تموت
- إلى هذا الحد ... وماذا بقى ؟
- بقى شىء ثالث وهو النادر .. هو أن تتحدى الصعاب لتنهض ، قد تصمت وتنزوى .. لكنها تقول أشياء ، وإن نهضت .. تنهض بعزيمة وغالباً ما يكون هذا النوع من أعراق لها بنية قوية تورثها فى النفوس
- وأنت يا أمى .. ماذا كان حالك مع أبى .. لقد آن الأوان لأعرف ، أريد أن أسمع ، فقلبى لك مفتوحاً
قالت الأم وهى تبتسم:
- لم يكن لى مع أبيك حال ولا أيام .. كنت فى الثامنة عشر عندما تزوجنى والدك ، ولأننى كنت بلا طموحات .. قبلت الزواج بعد أن أقنعنى أبى وأمى بهذا الزواج وهو الشاب الذى تتمناه أى فتاة ... ورغم عبثه إلا أن والدى كان مقتنعاً بأنها حالة تنتهى بعد الزواج وأن الأسرة ستهذب من سلوكه وبكل أسف لم يستطع أبيك الاستقامة طويلاً ، فلقد عاد إلى ما كان عليه متجاهلاً كرامتى وأيامى وأحلامى الصغيرة ضارباً بها عرض الحائط ، وتركنى أعيش فى بيت عائلته وكأنى بينهم وحيدة لا حق لى على الاعتراض .. وهو رجل يفعل ما يريدوعندما أنجبتك أحسست أنك عوضى عن هذا الحظ ولكنى أحسست برسالتى الحقيقية فى الحياة وهى أنت ... كنت أعتكف على تربيتك رغم الضغوط النفسية حولى و مشاكلى مع عائلتك .. فهم يريدون أن يمتلىء البيت بالأطفال ليعوضوا هذا الانقراض وهم أصحاب الأملاك والأموال ، ولكنى شددت على نفسى أن أكون مجرد أداة ورفضت أن أنجب مرة أخرى لكى لا أكون مستسلمة بأطفالى لأى وضع خاطىء وشاذ ...وانفصلت عن أبيك بدون طلاق وعدت إلى بيت أبى بعد وفاة أمى لأقيم معه .. وقد ندم على زواجى وعوضنى بأنه تكفلنى من جديد وتولى رعايتك ...وهو فى هذه المرحلة كان يعتكف كثيراً على كتب العلم .. وبدأ يعملنى كيف أبنى شخصيتى من جديد وأتحدى كل شىء ، وأقف ثابتة حتى لا أنهزم وأهزمك معى .. وشاءت الأقدار ومرض أبوك ولازم فراشه ... وحاولت عائلتك أن تضغط علىّ بالعودة ولكنى رفضت حتى لا تصبح أسيراً لديهم خاصة وأنك وحيدهم وكان من الصعب على والدك أن يتزوج من أخرى بعد مرضه .. ولم أبخل عليه فى أن أحضر أيامه الأخيرة رغم كل شىء ، لأنه الواجب الدينى ...وقد أوصى عائلته أن يأخذوك لتربى بينهم ، وكان صعب علىّ أن أعود لهذا البيت والإقامة فيه ولم أسلم من نقمتهم علىّ ... وحاول عمك أن يقنعنى بالزواج منه بعد فشل زواجه السابق بسبب عقمه ، ولكنى رفضت فلم ينس لى ذلك و أننى كسرت القيود التى ستجعلنى أسيرة لهم وظل يتربص بى حتى بدأت أنت تكبر ليسمم أفكارك ويشعرك بخبث إننى كنت سبباً فى مرض أبيك وموته مقهوراً بسبب بعدك عنه ... كنت أخشى عليك من معرفة الحقيقة ، فى أن أدمر الرمز الذى يحبه أى فتى فى أبيه ، أحببت أن تسعد فى حياتك وأنا أربيك مع أبى الذى منحك سنيناً من عمره يعلمك ويرعاك كما ينبغى .. ولكن نجح عمك فى الانتقام منى عندما أصبحت فتاً ، وأخذك للإقامة معه وزرع الوساوس والأوهام فى نفسك .. فكانت النتيجة ما أنت فيه الآن ، تعيد ماضى أبيك دون أن تدرى وكأنه فى كل يوم يرسل لى برسالة يقول فيها "لا فائدة يا سيدة الأخلاق" ...... واحترقت عليك ، أحسست أنه الامتحان الصعب ولا أجد غير الله أدعوه طيلة هذه الأعوام أن يهديك وتعود إلىّ إبناً بكل المعانى الطيبة .. ولن أيأس أبداً ، سأظل أطلب من الله ذلك حتى آخر يوم فى عمرى ..
لحظات وفؤاد ينظر إلى أمه نظرة فيها عتاب ... ثم نهض ليقبل يديها وقال :
- ليتك قلتى لى ذلك وأنا طفل .. وكم أتمنى لو أنى لمت نفسى قبل هذه اللحظات بزمان إلا أنى أدرك دائماً إنك كنت لى أماً عظيمة
ثم أسرع وذهب إلى غرفته حتى لا يرى تأثير كلماته عليها ، فقلبه لا يحتمل منها دموعاً حتى قبل ذلك ..
بدّل ملابسه وهو يحاول أن يهرب من نفسه حتى أمام المرآة .. فإن فى نفسه شيئاً يخاف أن يعترف به.
ذهب لينام فى هدوء إلا أن صوتاً تسلل إلى أذنيه يحكى له قصة أهل الشام ...
وضوء خافت يطل من بعيد يظهر وجهاً حزيناً وجسداً نحيلاً يطوى بداخله أنات وآهات لا يمكن أن يتجاهلها ...
ذكر اسمها بصوت خافت ...
" وجدان " ......
فاهتز قلبه وارتعش جسده وأغمض عينيه لينام وهو لا يدرى هل ينجرف إلى بحر الأمواج أم إنه هزل الجسد الذى أرهقته الأحداث


مرت أيام ثقيلة على فؤاد لا يدرى سببها ، شعر بضيق صدره يوماً بعد يوم وكأنه الامتحان الصعب الذى يتخطاه ليصل إلى صفاء نفسه ...
حتى جاء يوم .. شعر فيه أنه يسأم كل شىء ، لا يدرى ماذا يفعل وإلى أين يذهب .. وسرعان ما فر إلى خلوته المعتادة منذ أن كان صبى عند القلعة .. ورغم ضجيج الصيف إلا أنه أخذ ركناً أعلى القلعة ليرى البحر والفراغ ...
يمسك صدره بيده ويقول ...
"يا ربى لجأت إليك وقت الضيق وقد ضاقت بى الأرض ، لجأت إليك طالباً فكاً من كربى فما أصعب ضيق النفس ، اعف عنى .. فطالما أغوانى الشيطان وأهلك نفسى .. ولكنى وسط هذا كله أحسست أنك تنجينى من هذا الطريق وطابت نفسى واشتاقت للعودة إليك فعدت ساعياً نادماً .. فلم الضيق يا رب ... "
فكان صوت الشيخ يقول له :
- غفر الله لك يا ولدى .. دعنى أجيبك بما أنعم الله به علىّ
- نعم .. إنى أريد أن أرتاح من هذا الضيق
- لما خلق الله الحياة للبشر ، كان يدرك بذاته الجليلة أن البشر تغلبهم المعاصى .. فأعطاهم هدية الغفران .... فإذا ارتكب ابن آدم المعاصى و الفواحش و أدرك معصيته ، خر ساجداً مستغفراً باكياً نادماً .. فإن الله غفور رحيم ...فإن تابوا وأصلحوا .. غسلهم من ذنوبهم ونقاهم من معاصيهم وقد يكون هذا خلال عمرك كله ... فالضيق فى النفس الذى يعقُب تأنيبها و تهذيبها ، هو علامات الغسل .. فإن ضقنا فنحن نشعر بالذنب وكلما شعرنا بالذنب توجهنا إلى خالقنا لعله يرحمناففى الكرب عذاب لنصل للنقاء ...فلا تيأس من رحمة الله ...
( قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) صدق الله العظيم

ووضع الرجل يده فى عباءته وأخرج سترة فؤاد القديمة من جديد وأخرج من جيبها المصحف الصغير وناوله إياه قائلاً :
- هذا كتاب الله وهذه سترتك تحميك من قسوة الليالى الباردة عندما تهل فى مواسمها وكلما شعرت بالكرب .. إقرأ فى كتاب الله ، فبكلمة "إقرأ" تُفتح لنا السماء وتنشق الأرض عن أسرارها وتظهر أسرار الكون وتنطلق أرواحنا إلى من يرحب بها عندما تقابله قائلاً : "إنى قرأت فارتقيت حتى وصلت إليك .. فأدخلنى فى عبادك الصالحين"
لم يكن فؤاد يدرك أن الحب الحقيقى قد مس قلبه ، و أن هزات كيانه ما كانت إلا ارتعاشه كلما نظر إلى هاتين العينين المسافرتين إلى اللانهاية .. كان يشعر بدفء داخل كيان "وجدان " لم يعتاد عليه ... إلا أنه أحس وبلا إرادة أنه يحتاج هذا الدفء.
وهناك فى الركن الصامت داخل هذا البيت الذى بدأ يحب كل ركن فيه رغم كآبته ، وقد اعتاد أن يزورهم مع بهاء .. يدخل ويخرج بنفس الانفعال وكل مرة يسألها بعينيه ...
"ألا تسأمين هذا الركن يا ابنة الشام ؟!"
ولاحت فى رأسه فكرة أن يصطحب أمه ليخفف عن والدة "وجدان" عبء الوحدة وليبرر غرض الزيارات المتكررة ، ثم جده حتى تتكون أسرة متفاعلة
وكانت النتيجة أن أم "وجدان" أحست بالراحة مع هذه العائلة ... ومع الأيام أصبحت عائلة فؤاد مصدراً لاجتياح هذه الوحدة ، إلا أنه أبداً لم ينجح فى استدراج هذا الحس الشارد الذى كان يبعد عنه كلما اقترب منه.
ولاحت فى رأس فؤاد فكرة أن يصطحب "وجدان" وأمها وجده وأمه إلى هذا البيت القديم فى الريف ... هذا البيت الذى يعتز به جده لما له من أثر فريد فى كونه يحتوى على ذكريات قصة حب لصديق عزيز لديه ، وهو وزوجته كانوا حكاية هذه القرية الصغيرة ... وعندما فارقا الحياة اشترى جده البيت بكل أثاثه وتركه بذكرياته وفاءاً لصديقه ...
وبقى هذا البيت يذهب إليه الجد كلما حن إلى الماضى .. وهنا أحب فؤاد أن يصطحب الجميع إلى هذه النزهة ... بعد ما ترك له بهاء تحمل مسئولية هذه الأسرة أثناء سفره فى مهمة علمية إلى الخارج ... وتحملها فؤاد بمنتهى الإخلاص والصدق
وكانت الرحلة مسلية حتى وصلوا هذا البيت الذى حمل الذكريات فى داخله حتى سرد هذه الأحداث.
استأذن كبار السن فى الراحة قليلاً من عناء السفر
ولم يبق سوى "وجدان" و "فؤاد" عليهما القيام بفتح البيت وتهويته ...
وبقى الجد مع السيدات فى حديقة البيت التى تحمل أشجاراً نادرة تخيم بظلالها على المكان
وكان انفراداً طبيعياً أن يجد فؤاد نفسه مع "وجدان" يفتحان باب البيت ، ولما دخلا المكان .. فتح فؤاد النوافذ المطلة على مساحة خضراء واسعة وقال لها:
- هذا البيت لم تدخله إمرأة غير أمى
فنظرت إليه متهكمة وقالت :
- وهل أعدت البيوت لدخول أى إمرأة وحسب ، هناك بيوت لا يسكنها إلا أناس بمفردهم ، وهناك بيوت لا تنعم فيها إلا الأرواح بمختلف أنماطها .. وأجمل البيوت هى التى فى الوطن ... تضم الأب و الأم والعم والخال والأبناء والذرية ... فلماذا المرأة وحدها ؟!
أحس فؤاد بالحرج ولكنه سرعان ما أحس بأنه يريد أن ينفض لها ما بداخله ليقول لها ... يسعدنى أن تكونى أول إمرأة دخلت من هذا الباب ... فهذا البيت بكراً لم تدوسه أقدامُ غيرك فى حياتى ... ليت كل الأقدام كانت أقدامك ...
ثم قال لها وهو ثابت العينان يتأملها :
- هذا البيت اشتراه جدى خصيصاً ليكون ذكرى وفاء لصديقه ، وهذه الأرض التى تطل عليها النافذة هى أرض جدى وأرض أجدادى ... وكما ترين البيت قديم ، إلا أن معماره جميل ، صاحبه كان فناناً ريفياً بناه لزوجة يحبهاولكنه جمع فيه لمسات من قصور الغرام الكلاسيكية من وحى الروايات العالمية التى قرأها لذلك تجدينه يحمل اشباها كثيرة  ...كل ركن فيه يحمل لمسات يده وذكريات يحفظها جدى ويرثيها أيضاً ...وأنا سعيد لأنكم شرفتم هذا المكان معنا
قالت وهى خجلة :
- أشكرك ، أنت بذلت مجهوداً معنا لتبديد ما نحن فيه من غربة وحزن على أبى وإنى لسعيدة برؤية أمى تتحرك وتجد من يؤنس وحدتها
ثم شاحت بوجهها عنه وتاهت من جديد فى المساحات الخضراء وصمت فؤاد يتأملها والهواء يداعب خصلات شعرها الذهبية المضيئة  وهى تتطاير مع الهواء  .. وكأنه يرى معزوفة ما بين الهواء وشعرها غاية فى الرقة ...قطب جبينه وعض على يده وهو يتأملها وكأنها تصرخ صرخات تنفذ إليه لتئن بداخله وقال فى نفسه ..
"لوملكت قبضتى تلك من قتلوك لسحقتهم سحقاً ، فما أحسست برغبة الانتقام قدر هذه الأيام .. ولا اعتصر قلبى قدر هذه اللحظات التى عشتيها أنت .."
وهاجت أنفاسه دون أن يدرى وتصارعت دقات قلبه ، وشعر كأنه غازياً فى معركة حاملاً درعاً وسيفاً إلى بنى صهيون ... إلا إنه استفاق على صوتها :
- هل بك شىء ؟
ظل على صمته وهو يرد عليها فى نفسه :
" بى أنتِ "
فكررت السؤال :
- هل بك شىء ؟
- لا يا وجدان .. لا شىء ، يبدو أننى تنفست هواء الريف بعمق .. إنه هواء نقى أخاذ أليس كذلك ؟
- أجل ولكن دعنا نرتب المكان
ابتسم وقال :
- حسناً .. سنرتبه سوياً ، ولكن إعلمى أننى سأحتفظ بهذا الترتيب مدى الحياة فهى المرة الأولى التى سأقضى فيها أياماً هنا
وبعد ساعة كان كل شىء جاهز حتى جاء الجد وقال :
- أحسنتم يا شباب .. نحن كبار السن لا جهد لنا على ما قمتم به ، و إنى لسعيد لأنها المرة الأولى يا أم وجدان التى نجتمع فيها مع فؤاد فى رحلة كهذه ، و أين ... فى بلدى التى أحبها .. كم كنت أتمنى عند موتى أن أدفن بها
فقال له فؤاد مداعباً :
- لا تقلق يا جدى ، سأحملك وبنفسى إلى هنا .. حتى لو جئت بك سيراً على الأقدام

ضحك الجميع وقضوا وقتاً جميلاً بين المزارع والساحات الممتلئة هواءاً ونباتاً .. لم تكن فيها "وجدان" إلا ضيفة هادئة رقيقة ، ليس لها ضحكة تخرج من الأعماق ولا تعبيرات متحركة كذويها من الفتيات ... لم تكن لها غير ابتسامة هادئة وعينان شادرتان.
إلا أن فؤاد بفطرته أدرك أن هذا الكيان ليس خاوياً كما كان يظن ، بل إنه كياناً به ثورة وطموحات وأفكاراً تصل إلى أمل متجدد تشرق فيه شمساً جديدة على أرض هى لله ولأهلها
ولم يشعرها فؤاد أنه يعلم شىء عن قصتها التى أحزنته وهزت كيانه حتى لا تشعر أنها محل شفقة ، وهى بالنسبة له ليست كذلك ... بل أحياناً كان يرى فيها عبير طفلة هادئة تحلم بغد مشرق ... ولما سألها:
- هل أعجبتك مصر ؟
- أجل إنى أحبها قبل أن أراها .. فمصر تشد الناس من أقطار الأرض كلها ، لها ريح طيب وتأثير خاص .. ولما قرأت تاريخها عبر العصور المختلفة ، وجدت صفحات لأبناء هذا القطر البواسل عبر كل العصور .. من مينا حتى أبطال أكتوبر ..كان أبى رحمه الله يحب مصر وأهل مصر وكان يشجعنى أن أزورها ، كان يقول لى ( مصر احتضنتنى ) وهى أم حاضنة لكل عربى يلجأ إليها وكانت وستظل مهداً للعلم ولمن يطلبه فيها ، مهما تراكمت عليها الأحداث .. فلا أحد ينكر أن المصرى منذ قدمه علم الأمم المختلفة والتاريخ يشهد بذلك على الجدران الفرعونية.
ثم نظرت إلى فؤاد وقالت :
- إننى لا أرى فارقاً بين أى بلد عربى ، فكلها عندى سواسية ، إلا أن مصر قد تكون لها معزة خاصة ، فمنها رحمى وفيها عاش أبى وها نحن الآن نلجأ إليها
فقال لها فؤاد متلهفاً :
- ياليتك تعيشين فيها دوماً
احتدت نظرتها وقالت :
- أنا فلسطينية الأصل والمنبت ، هويتى إليها وعودتى إليها وقد يكون مماتى فيها .. فترابها سينادينى أبد الدهر.
أحس فؤاد بشدة الرد وكأنه مس شيئاً ليس من حقه ، كما أنه لمس تكويناً آخر يخرج من داخلها من حين لآخر .. أصبح يرى شخصية متحركة خلف شخصية ساكنة ...
اختلى بنفسه يراقبها مع أمها ومع أمه وجده ...حائراً...
فالمرأة التى آلفها منذ سنين .. إما ساكنة أو متحركة
ولكنه يتعجب من هاتين الشخصيتين المتنافرتين .. إلا أن إحداهما لا تتصادم أو تتعارض مع الأخرى .. أحس بمتعة كل منهما على حدة ...
فالهادئة الهائمة جعلته يسافر ويطوف العالم بحثاً عن العالم الذى تنظر إليه .. والمتحركة حين تحدثه ينسى الدنيا ويدخل تكويناً من صدق وكبرياء واعتزاز بكل قيمة وانتماء ليس له حدود.
كانت أيام قضاها ، بها ألفة واحترام متبادل بين الطرفين ، لم يتبادلا خلالها غير الأحاديث القليلة .. أحست "وجدان" خلالها أنها تحسنت فى حالها عندما أحست أن والدتها تمتعت بصحة جيدة خلال هذه الرحلة

وكان آخر يوم وليلة فى هذا البيت عندما أعدت والدة فؤاد كل ما يلزم لجلسة لطيفة من بداية ساعات الليل وعشاء ريفى متميز .. بينما انشغلت "وجدان" فى المطبخ بإعداد الشاى وتنظيم الوجبة ، فنهض فؤاد ليساعد أمه .. فمازحته الأم قائلة :
- فؤاد يساعدنى ؟! اليوم عيد
فقال لها :
- غداً فى الصباح سنسافر ، لا أريدك أن تجهدى نفسك .. ارتاحى أنت وسأقوم مع وجدان بعمل كل شىء
وما كاد ينتهى من حديثه حتى تركت "وجدان" المطبخ وذهبت مسرعة وجلست إلى جوار أمها فوقف فؤاد متسمراً .. بينما قالت الأم :
- هذا الأسلوب لا يتبع مع فئة وجدان
قال :
- أظنها فتاة غريبة فى طباعها
قالت الأم وكأنها تطيب خاطره :
- هى غريبة فى طباعها عليك أنت ، لأنك فى حياتك لم ترى إلا كل ما هو عجيب .. وجدان هى نمط العائلات المحترمة.
قال فؤاد :
- لم أقصد شيئاً يا أمى ، فقط يؤلمنى حزنها ، وأود أن أراها تمرح كبقية الفتيات فى سنها
تنهدت الأم وقالت :
- ومن أين يأتى المرح والقلوب منكسرة والحزن عندهم فى كل بيت وفى كل ساعة القهر والاستعباد يا ولدى يهدم الجبال ، فما بالك بالإنسان !

هنا أطفأ فؤاد لمبات الإضاءة وأشعل الشموع فى أركان المكان ليكون عشاءاً هادئاً واستئذنهم فى سماع سيدة الغناء العربى أم كلثوم فى قصيدة " أقبل الليل " وهز الجد رأسه وهو يسمع كلمات السيدة التى تنفذ إلى القلب :
أقبل الليل يا حبيبى
أقبل الليل ونادانى حنينى يا حبيبى
وحتى مست القلوب عندما أنشدت تلك الكلمات التى تقول فيها :
يا بعيد الدار عن عينى .. ومن قلبى قريباً
كم أناديك ...... كم أناديك
أحست كل القلوب المحبة أنها تريد أن تختبىء داخل بعضها
كلٌ يحمل ذكرياته وأيامه ويتذكر أحبائه ..
تناول الجميع الشاى بعد العشاء وهم يتبادلون الحديث بعد سماع هذه الأغنية التى أثارت بداخلهم الكثير من الذكريات والتى كانت محور الحديث ...
حتى دخل الجد فى ذاكرة احتلال فلسطين عام 1948 م ... وتوالت الذكريات المؤلمة حول قناصى هذه الأرض وتشريد شعبها وسرقة كل ما لديهم ..
ثم قال الجد موجهاً حديثه إلى "وجدان" غير قاصد فلقد كانت تشاركهم الحديث وقال :
- الاغتصاب شىء صعب ، يكسر القلوب ويذل النفوس
و كأنه داس على الجرح بلا قصد
فشعر فؤاد بأن جسده كله يرتجف ..
إلا أن "وجدان" أغمضت عيناها وقالت متماسكة :
- لنا يوم نسترد فيه كرامتنا ونداوى جراحنا
فهدأت أنفاس فؤاد بعد رد "وجدان" الذى خاف عليها لفرط حساسيتها ، فهو لا يدرى كيف التصق إحساسه بها فى كل حواسها ..
كأنه مخلوق معها من جزئية واحدة
هكذا دارت الأحداث وانتهت الرحلة وتوالت الأيام ، وعاد بهاء من مهمته ليجد كل شىء على ما يرام
وكان فؤاد عالى الهمة يعمل ليل نهار .. ولا ينسى أبداً أحمد الذى اعتاد عليه وعلى جده وأم فؤاد ، فكان يقضى وقتاً يلاعبه ويمازحه حتى اعتاد الطفل على رؤيته واشتم حبه وحنانه ..
ومر عام كامل اقنع خلالها بهاء "وجدان" أن تستمر فى مصر هذه المدة حتى تسترد عافيتها رغم إلحاح عمها عليها بالرجوع ...
حتى جاء الوقت المعلوم عندما خرج بهاء وفؤاد يزاولان رياضة المشى ويتبادلان الحديث ، فقال بهاء :
- يبدو أننى سأستعد للسفر قريباً
- إلى أين يا بهاء ؟
- سأسافر مع خالتى ووجدان بغرض السياحة حتى أوصلهم وأطمئن عليهم ، ثم أعود فى أسرع وقت ممكن
وقف فؤاد وكأنه صحا من حلم جميل وقال :
- وجدان ستسافر ؟!
- نعم يا فؤاد لقد حاولت كثيراً أن أجعلها تبقى وقتاً أطول .. إلا أنها رفضت فعمها يلح عليها إلحاحاً شديداً بالعودة ..
تلعثم بهاء فى الحديث وقال :
- يبدو أن مهرها قد اكتمل وعليها الاستعداد للزواج من ابن عمها كما أخبرتك من قبل
قال فؤاد دون أن يدرى :
- وهل هى وافقت ؟
- ولم لا توافق يا فؤاد وقد أعدت نفسها لهذا الزواج منذ سنين
قال فؤاد مرة أخرى وبنفس اللهجة :
- هل تريده ؟ .. هل تتمناه حقاً ، أم أنه فرض الأيام و الظروف والرضوخ للأمر الواقع ؟
- لاأظن ذلك
فاحتد عليه فؤاد و صاح فى وجهه :
- ولم لا ... إنه اختيار من ليست له إرادة فى شىء ، كما ولدنا لنجد آباءنا و أهالينا لم نختار منهم أحداً
- ولكن قضية الزواج تختلف هذه المرة  يافؤاد ، فهى مرتبطة بقضية مصيرية .. بجانب أنها علاقة بين زوج وزوجة قد تمتلىء حباً ومودة
- ولكنها قد لا تحبه
- بل أنت الذى تحبها
أحس فؤاد أن بهاء صفعه ليستفق .. ثم صمت وسكن ......
فقال بهاء :
- أجل يا صديقى أنت تحبها .. فمنذ ان  رأيتها تأثرت بها وأحسست بها إحساساً شديداً جعلك فاقداً وعيك وحواسك تجاه قضية الوطن فى حياتها ...لماذا سكت يا فؤاد ؟ ..هل كنت تظن أنك لست إنساناً من حقه أن يشعر بالحب الحقيقى بعد ما هجرت حياتك القديمة .. هل كنت تظن أنك ستهجر قلبك الذى يئن دون أن يدرى به أحد ... وإنى لأقدر قيمة هذا الحب رغم الصمت التام ، إلا إنى أشعر أنه أنقى و أقوى أنواع الحب الذى صادفك فى حياتك
قال فؤاد
- بل إنها المرة الأولى الذى يمتلكنى إحساس كهذا ...وجدت نفسى أمام تكوين عجيب .. كلما نظرت إليها نسيت أن ورائى حياة تركتها ، وكأنى اختليت بها فى هذا الكون وكأنى أحس بدوران الأرض تلفنى وتلفها ...وكلما عدت إلى وعيى .. أشعر أنها تختفى حيناً و تظهر حيناًوكلما ابتعدت عنى أعود وأرها ... كأنها كوكب إنضم للمجرة تدورحولى دورة منتظمة أدرك فيها أنها كلما اختفت ستعود ...ويقينى أن كواكب المجرة لم تكن أبداً تأخذ مداراً عشوائياً ...وهذا هو الفارق بينها وبين أى إمرأة دخلت حياتى
- وهل كنت تظن أننا لم نشعر بك ؟
- من تقصد ؟!
- كلنا – أنا وأمك وجدك- وربما وجدان
- وهل شعرت بى ؟
- ربما إلا أنها لو أحست بحبها لك ستموت دون ذلك ، ولا تنسى أنها ورثت قضيتها بطفرة جينية طبيعية ......فؤاد ... ، كم أنا حزين لأجلك .. ليتنى قادراً على فعل شىء .. كان بودى أن تكتمل سعادتك بهذا الحب ، فالرجل لا يجد نفسه إلا فى حب حقيقى يملأ قلبه وحياته ويبنى له كيانه ... آسف جداً يا صديقى.
وتركه بهاء بعد ما أحس أنه لا يريد الكلام حتى أدرك فؤاد نفسه وهو فى ظلمة غرفته ... جالساً على سريره محتضناً ركبتيه بيده ، منحنياً عليها كأنه يعصر قلبه
حتى أدركته أمه فى هذه الشدة ... حنت عليه وهى تناديه برفق ، فرفع رأسه إليها ...
ومع أنها أحست بدموعه إلا أنها فضلت ألا تضىء الغرفة ، وفضلت أن ترى وجهه من خلال الإضاءة الخافتة التى تسربت إليه من الباب المفتوح كأنها دخلت عليه ببصيص من الأمل
كانت الكلمات صعبة عليها أن تسأله :
- ما بك ؟
فقال لها

- لم أكن أعلم أننى أحبها إلى هذا الحد .. أبت نفسى أن تعترف به ظناً منى أننى أقوى من أى إحساس قد يملأ نفسى وقلبى ...إلا أننى أخيراً استسلمت .. كأنى لبست ثوباً شفافاً رقيقاً ليس من صنعنا بل إنه من صنع الله للروح وليس للجسد .. لأول مرة أشعر بضعفى وانكسارى لمجرد أن أذكرها ... فقط أذكرها لا أدرى ماذا ينتابنى ؟!

قالت الام
- إنه ليس انكساراً .. بل هو القوة الحقيقية التى تجعل من البشرية إنسانية .. أنت عشت حياتك السابقة بشراً ، وقد جاء الوقت لأن تكون إنساناً ...إذهب إليها وقل لها إنك أحببتها ، فهى أحق أن تسمع منك ذلك
- ولكن .......... ؟
- لا تتعجل الإجابة ، فمهما كانت ظروفها قاسية .. بالرغم من أنى أجهل كل ظروفها إلا أنها ستسعد برجل يحبها فإن كانت قد أحبتك ،فاعلم انك فزت بها ..وإن لم تكن ، فاعلم أنها لن تنسى يوماً أنك حملت لها مشاعر خالصة
كانت كلماتها كأنها البلسم
ففى الصباح قرر أن يذهب إليها وهو يسأل نفسه لماذا لم يسلك معها أقرب الطرق ، هى ليست ممن كان يحاورهم ويأخذ معهم الطرق الملتوية .. إنه لم يتعود بعد الالتزام بالخط الواحد ..
ركب سيارته وهو يقول لنفسه "علىّ أن ألحق بها قبل أن تتخذ قراراً "
استأذن بهاء فى مقابلتها ، فاصطحبها بهاء إليه عند نفس المكان الذى يتخذ فيه كل قراراته عند شاطىء البحر وهذا المنحنى الذى يطل على الماء مباشرةً
انسحب بهاء فى هدوء فقد وجد أن من حقها أن تسمع وعليها أن تقبل أو ترفض
ولكنه تعجب وهو يحدثها فى الطريق قائلاً :
- يا ابنة خالتى ، فؤاد يعرف عنك كل شىء لأنى ما أرى كل شىء إلا ملحمة و ليس حدثاً
فقالت له رد غير متوقع :
- أعرف
- وهل حدثك بشىء ؟
- أبداً ، إنى أحسست بذلك .. رغم حرصه الشديد إلا أنى قرأت فى عينيه كل شىء من خوفه علىّ ومن فرط حساسيته اتجاهى
- رغم صمتك يا وجدان ؟
- هذا لا يعنى أننى فقدت الإحساس بالآخرين ..ولكن فؤاد لم يكن معى كالآخرين ..إنه كان يئن معى فى صمت ويشاركنى كل خواطرى رغم هذا الصمت
- ماذا يعنى لك فؤاد ؟
- سأسافر وأحمل له إحتراماً وتقديراً

أحس بهاء أنها هربت من الإجابة واحتفظت بها لنفسها رغم عزمها على السفر ، ومع هذا تركها بهاء وانصرف رغم أنه خمن إجابتها لفؤاد

وعندها نظرت لفؤاد نظرة مطمئنة كأنها تقول " أنا أسمعك "
قال لها :
- لا تنظرى إلىّ ربما لا أستطيع الحديث ، انظرى إلى البحر ودعينى أراك تنظرين إلى عالمك .. علنى أجد الكلمات
فلما نظرت قال :
- الآن تحللت من جسدى وأصبح لى إحساس الأرواح التى لا تتقيد بوقت أو زمن ، إنها تحلق كلما اشتاقت لغذائها الذى يمدها بالطاقة التى تسعى بها فى عالمها الخالد ..الآن أستطيع أن أقول لك بحرية أننى فى الماضى كانت لى أعباء ومساوىء ككل البشر ... عشت أياماً لم يعرف النور فيها طريقى ولما جاء الوقت تطهرت من كل المساوىء و إذا بى أجد النور يفيض علىّ من كل جانب حتى دخل شعاع به أبهى الألوان و أنقى إضاءة ..إنه نور حبك فى قلبى ...إنى أحببتك حتى أحسست أننى والعالم أصدقاء .. عشت فى رحاب أرضك حتى صرت وكأنى نامياً فى تكوينات تلك الأرض ..أحببتك حتى صرخت حواسى كلها بأنات غاية فى الألم وسكنت من داخلى أيضاً فأصبحت غاية فى السكينة والاطمئنان ..حبك أهاج عالمى وخواطرى ومس ضميرى حتى نفض كل ما فيه من غبار ... الآن علمت أن الحب دنيا غير دنيا البشر ..إنى أحبك كما يحلو لى فإن تحولت عيناك عنى فلن أسألك الإجابة ولا الاستجابة دعينى أحبك فالحب ليس له سلطان .. دعينى أضمك فى عينى لأنى أصبحت أهوى ضم المعانى واحتضان الأحاسيس ..والآن أراك معناً جميلاً فيه روعة التصور والإبداع ..لقد أصبح شخصى يهفو إلى عناق معانيك فإنها تطيعنى ..وإن رفضتينى أنت دعينى أحبك حتى ولو رحلت الكلمات من كلانا ...فيكفينى نظراتك التى تحاكى العالم فى قضية محفورة بداخلك أنت وحدك صاحبتها
نظرت إليه من جديد وقالت :
- حياتنا ليست ملكاً لنا ... أما مشاعرنا فهى ملكنا ، نستطيع أن نطلقها أو نحبسها ونخفيها ولكن حياتى مقيدة فى إطار محدد جندت له نفسى ...فحياتى مبنية على النضال وعدم الهجر ..لا نريد مزيداً من التخلى والتشرد ، لن أرضى أن نبيع آخر ما نمتلك ...علينا أن نبنى لأنفسنا ، وإن متنا فالمتبقى لأولادنا ..ولا تنسى أنى حتى الآن مُهانة مجروحة الكرامة وحقى مشتت ...إننى أعيش ولا أعيش ...ألا تشعر بذلك ؟
حنى عليها بعيناه وقال :
- إياك يوماً أن تشعرى بهدر الكرامة ، فالأرض التى تغتصب تظل بكراً ما دامت لم ترمى بخيراتها ... فخيرها لا يعرفه إلا صاحبها فقد لا يعلم مغتصبوها أنها تلفظ من داخلها ببراكين غاضبة تبتلع من أخذها عنوة ... المهدور كرامته هو من يستسلم راضياً
- ولكنها حقيقة مُرة فى حياتى .. فأنا وأرضى سواسية فى الجرح
- ولكن يداك وعيناك طاهرتان .. لا تقولان إلا صدقاً ..هل تشعرين إننى أحبك حقاً ؟

أغمضت عيناها وأشاحت بوجهها فقال لها :

- الحمد لله أن إحساسى قد وصلك
- إنى مسافرة لأتزوج ابن عمى ، وعليك أن تستسلم للأمر الواقع .. هو أيضاً يحمل لى مشاعر طيبة وأنا أحب أن أكون له زوجة مخلصة
- صدقينى يا وجدان .. إننى لست انتظر مقابلاً لهذا الحب ، يكفى أنك أصبحتِ فى دمى .. بقيتى أوسافرتى فلن تفارقينى .. ولن تغيب عيناك عنى

صمت أمامها وهو يقول فى نفسه "والله أنى لأشعر بأنك ستخلدين معى فى دار ليست كهذه الدار" .....
فقالت له :
- ساعدنى أن أرحل ، فلى حلم بقى ..هو أن أطوف العالم لأجمع قلب كل فلسطينى غفا قلبه عن قضية أساسية ، وهى أن الأرض عائدة لامحالة ..ولكن ليس بهجرنا و الانكفاءعلى الحياة الفردية والخوف من الموت والرضوخ والاستسلام للأمر الواقع ..قضية التشريد التى فتحت للفلسطينى الأبواب المغلقة فى الغرب وذللت له الصعاب وملكته المال وجعلته يهوى التنعم وينسى القضية ..ولو مد الله فى عمرى لأطوف العالم بحثاً عن أبناء هذا البلد وأحكى لهم كيف نحن .. سأعمل على دفعهم للعودة فلقد طال السكات واليد التى أخذت جزءاً امتدت لتأخذ بقية الأجزاء ..أحتاج إلى تحقيق حلمى ..على أن أتزوج ابن عمى وأنجب أطفالاً يرثون قضيتى .. فلو تخليت أنا فى أن أنجبهم ، ستفقد أمتى أرواحاً لها حماس ...أيرضيك أن أضع كل طموحاتى وأمنياتى فى أرض تنعم بالرخاء وبلادى تحتاجنى وتحتاج أماً لأجيال ..إنه تاريخ وراثى نؤرخه نحن بما نحمل ، أم فلسطينية لها قضية وأب فلسطينى يحمل قضية ، لابد وأن ينجبا أطفالاً تربى على أن لهم قضية ...لقد قلت كل ما عندى.
كاد أن يقول شيئاً فاستوقفته بعينان دامعتان وذهبت ....
ولم يغضب فؤاد ولم يسوءه موقفها بل زاده حباً واحتراماً  ، ثم انصرف إلى بيته وطلب من بهاء أن يحضر إليه ليسأله :
- متى ستسافر وجدان
- فى خلال شهر ، وسأذهب معهم لحضور العرس
- بل سنحضره سوياً
تسمر بهاء فى مكانه لسرعة اتخاذه القرار وقال :
- ولكن السفر إلى هناك ليس بسهولة ، أنت تعرف الوضع جيداً
- لى طرقى فى السيطرة على هذه الأمور ، ولا تنسى أننى رجل أعمال
رمش بهاء بعينيه وقال :
- فؤاد .. وجدان ستتزوج .. كيف ستشهد هذا اليوم
- هذا أهون لى من أن أودعها وترحل ، دعنى أقحم نفسى فى الموقف واندمج معه وأشعر أننى أسكب الماء على النار بيدى.
ولم يكن قرار السفر سهلاً للجميع ، فلقد قلقت "وجدان" من اتخاذ هذه الخطوة ، وتألمت لمشاعره ... أما أم فؤاد وجده ، فلم يجدا إلا الاستسلام لهذه الرغبة التى بلغت ذروتها عنده ..
وتقرر الموعد وجاء اليوم ووعد فؤاد أمه أن يكتب لها عن تفاصيل الرحلة ، ووعد بهاء أهله بالعودة بسرعة .. وودع فؤاد أحمد ..
إلا أن فؤاد وقبل سفره طلب من بهاء أن يشترى من عائلته بيت جده القديم .. والتى كانت تسكنه "وجدان" بأعلى سعر ، واشترط أن يستلم البيت كما هو ، بركنه الهادىء الذى كانت تسكن فيه صاحبة الوعد الحق ...
ليحمل الذكرى الجميلة التى أصبحت بالنسبة له كأنها العمر كله ...


وكانت الرحلة

تُعيد كتابة التاريخ برمية حجارة ..
منذ أن تلتقطها حتى تقذفها تسترجع بها أمجاد الماضى كله ..
لقد أذهلتنا جميعاً يا ابن الشام وجعلت من الحجارة أسطورة نقلتك من الصمت والضعف إلى منتهى القوة
وذكرتنى بعصا موسى عندما حملتها ، وسألتك ما تلك بيمينك يا ابن الشام ..
قلت إنها ميراثى، أتوكأ عليها أهش بها على غنمى ولى فيها مآرب أخرى ...
وكأن حجارتك أخذت من سحر عصا موسى لترهب به أعداءك .. وتكتب بها صفحات التاريخ ... وتنقلنا معك من الصمت والضعف إلى منتهى القوة

الشطر الثالث

كانت الإجراءات صعبة للوصول إلى تأشيرة الدخول إلى الأرض المباركة ، لم يكن أمام بهاء إلا الاستسلام لرغبة فؤاد الذى حدد مسار الرحلة البرية بنفسه بعد عناء ... وكون بهاء يعمل فى مسار مهنة الإعلام ، كان له أن يقوم بترتيبات خاصة لتمر الرحلة بسلام
ولم يكن داخل فؤاد سوى رغبة فى أن يمر على سيرة التاريخ - لو استطاع - شبراً شبراً ، فرغب فى سماع قصة وأحداث هذه الأرض أثناء الرحلة .. فقال بهاء لوجدان :
- أحكى له أنا أم أنت يا ابنة الشام ؟
فقالت له ولأول مرة وجهها يشرق بابتسامة :
- بل إحكى أنت ، أحب أن أسمعها من مصرى يحب أرضى كما أحبها
قال بهاء :
- حقاً يا جماعة ، نحن ينقصنا الحب مع الانتماء لهذه الأوطان الغالية ..وأن نحب التاريخ ونحفظه ونعلم أن معايشة الحاضر فقط لا تكفى ... أنا شخصياً من عشاق التاريخ لأنه كلما تثاقلت علينا هموم الحاضر وأحاطنا الإحباط من كل جانب ، نجد فى التاريخ مثابرة وتشجيع على النهوض مرة أخرى واعتزاز بالنفس لانتصارات وحضارات أجدادنا ..

وهذه الرحلة تقول لنا أن معرفة التاريخ تساعد على بناء كيان جديد كل يوم يضاف إلى كياننا الأصلى .... ها نحن ذاهبون إلى فلسطين التى تحمل عبق التاريخ فلقد مر على هذه الأرض أسماء كثيرة نسبت لها .. فهى أرض كنعان ومهجر إبراهيم عليه السلام ..والأرض المباركة كما ذكرها القرآن الكريم ..وفلسطين هذا الاسم مشتقاً من كلمات تحمل معانى الهجرة ، وكما جاء فى الكتب أن المؤرخ اليونانى "هيردوت" هو أول من أطلق عليها هذا الاسم ..
وكانت تعنى غرباء أو بدو المغتربين ، نظراً لهجرة العديد من الأجناس إليها ... وينسبها البعض الآخر إلى انشقاقها من كلمة فلاس السامية ، وهى تعنى يهاجر .. فهى شهدت هجرات وعدوان ليس له مثيل ... ففى الألف الثالثة قبل الميلاد استوطنها الكنعانيون وبسطوا سيطرتهم عليها .. ثم دخلها "شيشنق" ملك مصر واحتلها عام 920 ق.م ، ومن بعده دخلها الأشوريين عام 721 قبل الميلاد ..
ثم غزاها "نبوخذ نصر الكلدانى" ، وقد دمر القدس فى هذه الأثناء .. ثم غزاها الفرس عام 539 قبل الميلاد ، وظلت تحت حكمهم قرنين من الزمان ، ثم دحرهم الاسكندر المقدونى واستولى عليها وضمها إلى الامبراطورية اليونانية ... ثم احتلها الرومان وفى هذه الحقبة ولد السيد المسيح عليه السلام ... ودار بها ما دار من أحداث .. حتى جاء العهد البيزنطى على فلسطين
وقد شهدت أثناء هذه الحقبات المختلفة هجرات الأنبياء ابتداءاً من إبراهيم عليه السلام وميلاد اسحق .. ثم النبى يعقوب ..ثم هجرة يعقوب بأبنائه منها بسبب المجاعة كما ورد فى قصة يوسف عليه السلام والهجرة إلى مصر ... وعندما كثر عددهم وجاء عهد النبى موسى عليه السلام عادوا إليها فى عهد النبى يوشع ، وذلك بعد موت موسى .. حيث مكثوا فى الصحراء أربعين سنة كما ذكر فى أحداث التاريخ والقرآن الكريم ... وتتوالى الأحداث عليها فى عهد النبى داود وقصة بناء البيت ..
وحتى فلسطين فى صدر الإسلام ، عندما أرسل الخليفة أبو بكر الصديق عدة جيوش لفتح بلاد الشام .
وفى عهد الفاروق عمر بن الخطاب ، أمر بتوحيد الجيوش فى جيش واحد لمحاربة الرومان وهزمهم فى معركة اليرموك ... وهنا ابتهجت الأرض بزيارة عمر الذى أمن لها الأمن ويشهد على ذلك العهدة العمرية أعظم العهود
وتوالت الأحداث وانتقلت فلسطين من عهد لعهد، كالعهد الأموى والعباسى والطولونى
ثم درات عجلة التاريخ مرة أخرى وقصة احتلال أخرى .. حيث أغار عليها القرامطة ، ثم الاحتلال الصليبى إلى أن جاء نور الدين زنكى واسترجع بعض المدن والإمارات بعد قتال عنيف ...
وأكمل صلاح الدين القتال حتى انتصارات معركة "حطين" واسترداد القدس عام 1187 م ... وغار المغول عليها مرة أخرى فعادلهم سيف الدين قطز والظاهر بيرس فى معركة "عين جالوت" قرب الناصرة حتى النصر

ثم دخلها العثمانيون وظلت تحت سيطرتهم أربعة قرون ، حتى أغار عليها "نابليون بونابرت" عام 1917 م .. ولم يستطع دخول المدينة وعاد الجيش مهزوماً لأنها كانت محصنة تحصيناً شديداً ... ثم ضمها محمد على إلى ولاته بقيادة ابنه إبراهيم باشا إلا أن الفترة لم تدم سوى عشر سنوات
وبعد كل هذا بدأت تُعَد العدة الصهيونية ..
وكان ذلك بدايته رسالة "ثيودور هرتزل" إلى السلطان عبد الحميد لإنشاء جامعة يهودية فى القدس ، ولما رفض السلطان عبد الحميد ذلك ، أرسل هرتزل من جديد رسالة أخرى يعرض عليه مبلغ كبير من المال مقابل تشجيع الهجرة وبذلك يمنح اليهود قطعة أرض يقام عليها حكماً ذاتياً ، ومقابل هذا المال يهب السلطان امتيازات للمهاجرين اليهود
وحتى جاء اتفاق سايكس بيكو عام 1916م ، حيث تم الاتفاق بين فرنسا وبريطانيا على تقسيم المنطقة العربية إلى مناطق سيطرة ، على أن تبقى فلسطين دولية .. وانتصرت القوات الريطانية على تركيا (الدولة العثمانية) وانهزمت الدولة العثمانية التى كانت ترفض عروض اليهود وعلى أن تكون الأرض مقابل المال ..
وهنا جاء وعد بلفور والانتداب البريطانى عام 1917 م والذى ينص الوعد على إنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين ، وقبيل الانتداب البريطانى ، بدأت هجرة اليهود الفعلية إلى فلسطين ودارت الأحداث حتى قيام الدولة اليهودية "
وهنا توقف بهاء واستطرد الجميع يفكر وسط هذه الأحداث حتى قال فؤاد :
- يا لمعاناة هذه البقعة المقدسة ويا لمصير أهلها
كانت الرحلة طويلة والطريق كله أحداث من الماضى والحاضر .. ومدى تعقد الإجراءات فى الوصول إلى "جينين" بلد أهل "وجدان" ..

وسأل فؤاد بهاء :
- أين نحن الآن ؟
فقال له :
- نحن فى الخليل ، ومنها سنأخذ خطوط السير حيث سنمر بجودة ثم إلى القدس ثم اريحا ، نابلس ثم جينين

كان قلب فؤاد يشتاق إلى رؤية كل مدينة على حدة ، يسمع فيها القصص والحكايات .. يشاهد ويسجل .. فأخذ ركناً وجلس يكتب إلى أمه رسالة كما وعدها :


أماه
أكتب إليك وكأنى معك أحكى لك قصة هذه الرحلة بعد تأمل ، فمنذ أن غادرت مصر مع عروس الأرض المقدسة كنت أظن أن حزنى على فراقها سيقتلنى ويمزق أنسجتى ويقطع شرايين الحياة عندى ..
ولكن هذا الإحساس هدأ بعد أول نظرة على فلسطين ...
فعندما حملتنا السيارة إلى أجوائها ، رُسمت فى قلبى معالم لوحة تعبيرية تحكى وحدها عن ملحمة طويلة الأمد جعلتنى وللوهلة الأولى أُقتل ويُهدر دمى مُكرهاً ، وأخجل من كونى عربياً لا يقدر عروبته .. أحسست أننى أريد أن أتكوم فى أحشائك من جديد لتعيدى تكوينى ولا تلدينى إلا بعد ما أقسم لك أننى لن أولد إلا عربياً بدم حر وغيرة .. وطنى يعشق معنى الحرية  ويؤثر الكرامة على الحياة ويقدس تراب الأرض ويرفع اسم الله فوق كل شىء
أحسست بضآلة موقفى وأنا أرى تخريمات الرصاص على المنازل
وآثار الدماء على الحوائط
وأسماء الشهداء على الجدران فى كل مكان ..
ليكتب تحت الصورة وفوق الدماء أنها دماء الشهيد فلان ..
وأمهات تجلس أمام الصور بعيون بها إعصار من غضب وأنفاس لا تحمل إلا الأنات .. تجمع الجمرات لقذف إبليس فى الوقت المقدر والمحسوب عند الله .. قد تكون حجارة من سجيل ... إلا أن الله يجعلها برداً وسلاماً فى أياديهم وسجيلاً على أعاديهم ...
وروعنى طفل فى السنة الأولى من عمره يكاد يتعلم المشى وأول ما يتعمله هو كيف يرمى الحجارة ، يتعب فى حملها ذهاباً وإياباً بيديه الرقيقتين ..
ووسط الأطفال أحسست بالخجل وتضاءلت وكأننى تحولت إلى شخصية شهيرة لدينا اسمها عقلة الأصبع .. هذا الولد صغير الحجم .. ثم تذكرت أن عقلة الأصبع كان بطلاً واستغل حجمه فى إنقاذ بنت الملك من أيدى الأعداء .. إذن أنا أقل من عقلة الأصبع ..
عندما لم أتعلم يوماً أن أحمل بندقية اوأن أسمع نداء هؤلاء الضعفاء ..
فتمنيت أن أكون بخاراً حتى لا يسخر منى عقلة الأصبع ...
ولكنى تذكرت أن البخار يصعد ويتكتل وما تكتلنا يا أماه ..

إننى الآن أتعذب بهذه العيون التى لازمها الحزن وآلفتها الدموع .. وشباب لا يرون الغد إلا فى لغة الثأر وحلم الاستشهاد وأنا أسمع نغماتهم
منتصب القامة أمشى ... مرفوع الهامة أمشى
فى كفى قصفة زيتون ... وعلى كتفى نعشى
وانا أمشى وأنا أمشى
قلبى قمرأحمر ...قلبى بستان
فيه فيه العوسج... فيه الريحان
شفتاى سماء تمطر ... ناراحيناً ، حباً أحيان
فى كفى قصفة زيتون ... وعلى كتفى نعشى
و أنا أمشى وأنا أمشى .....................
ويمر يوم ويومان
وأسبوع وأسبوعان ..
وأنا أتجول وسط حكايات هؤلاء المعذبون المنتظرون ..
ويتساءلون متى سنعود إلى بيتنا ...
أماه
ا .. أحسست بالغليان وأنا أسمع قصص العدوان والتعدى وصيحات النساء فى كل مكان على كل فقيد ، وبيوت تهدم على الآمنين ورسالة بنى صهيون إلى كل فلسطينى تقول له ..
إرحل عن أرضك ...
عبارة مستفزة ، تجعل الدم يغلى فى عروقى  ..
كنت أسمع واحترق ...
أماه
أكتب لك من الأرض المقدسة التى شهدت تاريخ النبلاء .. من الأرض التى مر عليها أشرف الناس على مر الزمان ، يفوح عطرهم فى كل شبر من الأرض المباركة .. وكأنى يا أمى أسمع صوت سليمان ينادى على مخلوقات الأرض لتشيد هذا البنيان .. وكأنى أرى جريان مريم البتول فى جنبات البيت ترعاه
أماه .. الناس هنا ينامون ولا ينامون ...
عيونهم قلقة وأبدانهم ملك الأرض فى كل لحظة ..
ولكنى أرى نساء صامدات صابرات شديدات ينتظرن يوماً نكون فيه أغنياء بفيض من كرامة وإلحاح ...بإنتصار

فى جنين وفى حياة المخيمات ...
لم يجد فؤاد غير ذكريات من أتوا مشردين من ديارهم إبان الهجمات عام 1948 م
فى حياة كل أسرة قصة رحلة أتت بهم من أرضهم فى نسج مأساوى طبع الكثير من أنات الألم وصور القتل والدمار والاغتصاب ... كلها ذكريات مطبوعة فى وجوه بها تاريخ الزمن ، لرجال ونساء هم من أهل هذه الديار المنكوبة
ووسط هذا كله تسيرالحياة .. اليوم أفراح .. وغداً مأتم ..
وقد يكون الإثنين فى نفس الوقت
اليوم ميلاد وغداً رجال مجاهدين .. طعام وشراب وأعياد
ولكن فى الداخل ... حزن لا ينسى أبداً
إنها نزهة قصيرة داخل مخيم جنين الذى شهد خروج البواسل ، وقال بهاء لفؤاد :
- هنا عاش والد "وجدان" وتربى ، ثم رحل إلى مصر ثم عاد بخالتى المصرية وأنجب أولاده منها لتكون معه قلباً وعقلاً وروحاً .. حتى مات مجاهداً ، وكما ترى كل الفتية هنا هم تكملة لهذا المشوار
- حقاً إنى أرى فى روح الأطفال هنا مستقبل لمجاهد .. ليس لديهم هوس اللعب إنهم يلملمون الجروح مع أهاليهم .. ومع ذلك الحياة تستمر ، ولديهم قوة وثبات .. كما أن للنساء هيبة لا تقل عن الرجال.
وهنا هب نسيم الشام عليهم ليشموا رائحة الخبز المصنوع على التنور ، عندما اقتربوا من منزل عائلة "وجدان" ..
ثم سمعوا أصوات الزغاريد مع نغمات النساء
فارتجف قلب فؤاد فأمسك به بهاء وقال :
- غداً عُرس وجدان .. وعليك أن تكون مشاركاً
نظر فؤاد إليه وقال :
- الأيام التى قضيتها هنا ، جعلتنى شيئاً آخر .. تمنيت لو أتيت إلى هنا من قبل ، وأتمنى لو مكثت هنا بقية عمرى أشاركهم أحزانهم وأفراحهم ..صدقنى يا بهاء ، لقد وجدت فى حياتهم حياة رغم المعاناة ، ولا أنكر أن وجدان أصبحت جزءاً لا يتجزأ من هذه الحياة .. ومع هذا علينا أن نسعى جميعاً للاستمرار بكل طاقتنا وجهدنا .
خفف عنه بهاء قائلاً :
- حسنا .. تعالى معى نأكل من خبزهم ونحتفل معهم بعُرسهم
وكانت ليلة العُرس هادئة تحمل غناء الأهل والأصدقاء ..
لا صخب ولا ضجيج .. ثم اختُتِم الحفل بالدعاء للعروسين
فرفع كلٌ يده ليدعوا لهم
فوجد فؤاد نفسه يرفع يده وهو يقول
"عاهدتك يا الله ألا أنساها أبداً
وأن يكون حبى لها دافعاً لحياة أكثر قيمة وأكثر عطاءاً
سأحيا بهذه الروح طيلة عمرى ولن أنسى أبداً من مست قلبى ووجدانى وأعطتنى منحة أبدية داخل الحياة وما بعدها ..
فلا أتمنى لها إلا كل السعادة ..
اللهم إنى أشهدك على ذلك

إنقضت الأيام سريعاً ، ليعود بهاء وفؤاد إلى مصر حاملاً معه هدايا أهل الشام وهدية من "وجدان" وهى حفنة من التراب أتت بها من حول بيت المقدس ، سرتها فى منديل وقدمتها له قائلة :
- إنها حبات رمال تحمل عبير الشهداء ورائحة الأرواح الطيبة التى صعدت من هنا .. من تاريخ الأنبياء حتى الآن .. لتظل مرتبطاً بهذه الأرض الطاهرة وحتى لا تنساها.
وكانت السُرة تحمل عطراً .. احتفظ بها فؤاد وضمها إلى صدره ، فهى جزء لا يتجزأ من كيان حبيته التى تركها فى رعاية الله ليعود إلى البيت التى كانت تقيم فيه
ويجلس فى ركنها ..
وقد تحول إلى متأمل من وقت لآخر كلما جلس فى هذا المكان ....


لتدور عجلة الزمن خمس سنوات فى عمل مستمر وأحداث مضنية ، فيها توفى جده وأمه وامتلأت عيناه حزناً عليهما ..
كما أن هناك أحداثاً كانت تعينه على تحمل الأزمات ، منها أحمد الصغير يكبر كلما سمع منه كلمة عمى ..
كان يسعى له بكل طاقته ..
حتى فوجىء بمرض والدة أحمد مرضاً شديداً ، وقد أعطت لبهاء أمانة ليوصلها إلى فؤاد ثم فارقت الحياة ... فحمل بهاء الأمانة وذهب إليه وكان فؤاد فى ليلة شديدة عليه
كان يبكى فى ركن "وجدان"
بعد ما ودع أم أحمد لتلحق بزوجها رفيق عمره ..
كان بكائه حاراً ولم يكف إلا عندما جلس أحمد فى حجره ..
فاحتضنه حتى نام على صدره ..
وكأن هذا الركن ينضم إليه كل من كان وحيداً حزيناً
وعندما استيقظ الصبى ، نظر إلى فؤاد وقال :
- عمى .. هل سأظل معك ؟
قال فؤاد هو يتنهد :
- ألا تحب هذا ؟
- نعم  ، أحب أن أكون معك .. أنا أعرف أن أمى لن تعود ، هكذا قالت لنا المعلمة ... الذى يموت لا يعود ثانية .. يبقى عند الله حتى نلحق به ونتقابل مرة أخرى
إبتسم فؤاد لذكاء الطفل وقال :
- ولكن لى طلب وحيد عندك
- قل يا عمى
- لا تقل يا عمى .. بل نادينى بأبى
فهز الصبى رأسه ، ولم يجد معاناة فى طلب فؤاد ..
فهو منذ أن رأى نور الحياة
لمح وجهه حتى أصبح كأبيه بالفعل
وهنا أحس فؤاد أن دعوته لله قد استجايت ، وقد أعطاه أحمد كرسالة يسعى لأجلها ، وكأن مرور السنين ليس معناها أن قطار العمر قد مضى هكذا ..
إنه فضل الله على عباده ...
أن يهب لمن يشاء ويعز من يشاء ويغفر لمن يشاء ..

وهنا دعى فؤاد ربه أن يقدره على صيانة هذه الأمانة بكل ما لديه ، وأن يجعله له عوضاً عن أبيه وأمه ..

ولم يكن أمامه سوى مربية لترعاه وتسهر على راحته ... فأهداه بهاء قريبة له تركها زوجها ولم تنجب ... فظلت بلا عائل أو ولد ...
فقال فؤاد لبهاء :
- وكأن البيت أصبح خصيصاً ليضم كل من يعانون الوحدة وقسوة الحياة
قال بهاء :
- لكى يشعر الكل بالكل
ومن جديد درات عجلة الحياة عامين آخرين
والحركة آلية بلا هوادة ...
عمل وعبادة وصدق مع الله وتأدية رسالة وصداقة حميمة مستمرة وعطف وحب وعائلة جديدة تحيا مع بعضها ..
وطفل يكبر ، يضفى على الدنيا بهاءاً وحيوية
هنا أدرك فؤاد أنه على أعتاب الخامسة والأربعين .. إلا أنه لم يشعر إلا أن حياته ما كانت إلا تسع سنوات مع الله والعمل ..
ومع ذلك كان يندم على ما فاته
ثم سرعان ما يشعر بأنه ينسلخ من حياته الماضية ويشعر بجمال الحياة وسط العمل وحياة أحمد وحب "وجدان" الذى كان يعم الجميع ...
حقاً الحياة سعادة فى وجود هدف إنسانى عظيم ..
وخرج بعد هذه الأحداث من فيلته ذات يوم قاصداً الشارع ليختلى بنفسه عند مكانه المفضل على البحر ، ثم وقف يتنفس الهواء فى شهر مارس ..
هواء دافىء يختلط ببرودة منعشة ..
فوضع يده فى سترته بجانب قلبه وأخرج السُرة التى بها حفنة التراب وحنى عليها بيده ، فكلما غلبه الشوق إليها مد يده ليحركها لتلتصق بضلوعه وأغمض عينيه ليستمتع بهذا الإحساس النقى ...
فإذا به يرتجف من لحظة صدق ..
يخفق قلبه ويشعر بحنين عميق
فيجد من يسانده ويقول :
- أوكنت تظن أنك فى عجلة الحياة التى تطحن نفسك فيها أن تنساها وتتجاهل إعصار قلبك
إلتفت ليجد الشيخ وقد آنسه ، وقال :
- كنت أظن ذلك ، كنت أحاول أن أنسى بسعيى فى الخير .. رضيت بقضاء الله واعتبرت هذا تكفيراً عن سنوات ضياعى
- إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً ، فكلما تمسكت برضاك عن أمر ربك كلما أعطاك من فضله ولكن يا ولدى أبشر بقضاء الله حين يرسل لك الهدية .. مكافأة لك فإن أخذها فارضى مرة أخرى واصبر .. يجزيك فى آخرتك خيراً
- يعطينى ثم يأخذ منى ... ماذا تقصد ؟!
و كعادته لم يجد الشيخ ..
ولم ينزعج ، فلقد علم أنه جاء ليحمل له بشرى كعادته ، فعاد إلى البيت .. ليجد بهاء فى انتظاره يداعب أحمد
إلا أن عيناه استقبلته بكلمات أحس بها فؤاد وقال :
- لست كما تعودت عليك ، وكأنك تحمل لى كلمات
قال بهاء وعيناه تتحركان :
- أتيت إليك بخبر قد يفرحك ولكنه سيىء عندى
- سىء عندك ... فهو سيىء عندى يا بهاء
- حتى لو علمت أن وجدان طُلِقت وستأتى فى غضون أيام
نبضت عروق فؤاد وقال :
- ومن قال إننى سعيد بهذا الخبر .. هذا يعنى بأن وجدان فى أسوأ حال ، يقينى أنها تمر بأزمة الآن ...... إنه خبر لم أتوقعه فما وراء هذا الطلاق المفاجىء؟
قال بهاء :
- الإجابة عند صاحبته ، ولكن .....
- لماذا سكتّ .. ماذا هناك .. هل أصابها شىء آخر ؟!
- لا ولكنها لن تعود وحدها
- طبيعى أن تعود مع والدتها
قال بهاء :
- خالتى توفيت منذ ستة أشهر ، ولم أبلغك حتى لا أقلب عليك الأحداث وتتذكر أى شىء ...خالتى كتبت لى قبل وفاتها بمدة قصيرة وأخبرتنى أن وجدان تمر بأزمة ... إلا أنها لم تذكر لى أية تفاصيل
- بمن ستعود إذن ؟
- بابنتها "حنين "
قال فؤاد فى دهشة :
- أوأنجبت بنتاً !
- نتيجة طبيعية للزواج .. ولكن ليس هنا المشكلة ..
- لم أفهم يا بهاء
- البيت الذى اشتريته أنت
قال فؤاد هو يبتسم ويطمئنه :
- هو مكانها ... بيتها لتعيش فيه مدى الحياة لو أحبت
- اوتظن أن وجدان ستختار موطناً آخر غير وطنها
هز فؤاد رأسه قائلاً :
لا أظن ... بل إنى متأكد من أنها تحتاج شيئاً ما آخر تكرس له حياتها كلها
ولم ينكر فؤاد فى نفسه أنها تحتاج كل نفس من أنفاسه التى تصارعت
وقلبه الذى اضطرب
وجسده الذى انتفض رغم السنين ورغم المسافات ..
وهو يعتصر سُرة الرمال قرب قلبه ، كأنه يسلم عليها بحرارة
وهكذا قابلها وهى عائدة تحتضن طفلتها الجميلة التى تحمل ملامح شامية هادئة ..
و مع ذلك لم تفقد "وجدان" شيئاً من ثبات شخصيتها وبراءة ملامحها وهدوء عينيها ..
بل ازدادت تأثيراً ...
هكذا رآها من أول لمحة بعد خمس سنوات ونصف ..
وقد اصطحب أحمد معه ..
فسلم الصبى على الطفلة وكأن فؤاد يقول لها بهذا السلام ، حصاد سنواتى ..
وتقول له حصاد سنواتى ..
والتقى الحصاد فى مساحة صغيرة وكأنهم سبع سنابل خضر وأربع مزدهرات
تعانقت المشاعر فى البراح
إلا أن الحبيبة لا تحمل أبداً نظرة انكسار هذه المرة ، رغم أن التجربة شديدة ومريرة ... عندما قالت دون أن تتألم :
- لن أندم على اتخاذ هذا القرار ، لقد تزوجت على عهد وميثاق ألا يشغلنا سوى عودة الأرض ولا نهنأ إلا بطرد المعتدى ..لقد مات أبى وأخذ العهد عمى وزوجنى لابنه بيده ...لكن عمى رحل وهو ينتظر لحظات الجهاد الحقيقية لكن ابن عمى لم يطيق الانتظار طويلاً ... ضاق بالعهود والمواثيق فى ظل ركود وصمت من الأهل والجيران اللذين ناموا بالمعاهدات .. وأصبح هناك لا سلم ولا حرب ...وكأننا نتطاوح مع الريح ..إن هبت صدمتنا ..وإن سكنت أعيتنا ....حالة الإحباط التى انتابت ابن عمى ، ولم يكن وحده بل آلاف مؤلفة ، أثرت فى سكون نفوسهم ..والهدف واحد والغاية واحدةهو أن نترك أرضنا ونرحل بكل الوسائل .. . ببريق الذهب وكثرة المال والعروض المغرية .. والناس فى الفقر والحرمان وضيق العيش ..وإما العنف والهدم والاغتصاب بالقوة أوالمهادنة لأخذ كل ما لدينا ....وابن عمى عمهُ الضيق فغير اتجاهه وأصبح يريد الرحيل ..يريد الحياة .. يريد الاستقرارلقد انتظر طويلاً بلا فائدة وقال لى ..
- سنسافر ونستقر ونجمع مال يساعدنا على العيش
قلت له :
- نبيع أرضنا وقضيتنا ، أما هذه فلا
قال:
- سنعود يوماً عندما نجد حلاً ... حالتنا تزداد سوءاً
قلت :
- سنبيع
- لن نبيع ، سنرحل ثم نعود
قلت :
- سيأخذون بيتك هنا ويسرقون فى الخارج هويتك ، لتنسى إنك فلسطينياً قد تتحول إلى أمريكى أو فرنسى أو إنجليزى وسينقرض زمنك وتاريخك وتختفى هويتك الأصلية ... وقد يتزوج أبناؤك من أجناس أخرى وهكذا تنتهى ، إما بالموت أو الانتماء للآخرين .... أما هم سيزرعون فى أرضك ويعيشون فى بيتك وستقوى جذورهم
قال :
- ضقت ذرعاً بما تقولين
قلت :
- ليس لدى سوى الصبر ، فما صبرت أمة حتى نالت نصرها ... إرجع إلى التاريخ .. إرجع إلى كتابك وتذكر
قال :
- إذن سأرحل وحدى ، وفكرى فى اللحاق بى .. وستجدينى فى انتظارك
قلت له :
- بل فراق أبدى ، لقد زرع آباؤنا .. أفنقتلع ما زرعوا ...لابد لنا من ميراث ثابت
قال :
- أهذا قرارك ؟
- نعم
قال :
- وإبنتنا
- هى لى ، فلن استطيع إنجاب غيرها .. أما أنت فقد تستطيع إنجاب العديد من الجنسيات لو أحببت ... أتركها لى وارحل

فتركها ورحل وقد لا يعود
إنها اللحظة الحاسمة بلا تردد
ولكن عظيم أن تعيش وأنت تحمل داخلك قضية وقيمة ووجدان تحمل هذه القيمة
تحدت الأيام وكل الرغبات الحياتية لتسمو بهذه القضية
فهى زينتها وأنوثتها وكل لحظة من لحظات عمرها الماضية والقادمة ، متجاهلة أبسط حقوقها حتى فى أن تشعر بحب الرجل الذى أصبح يستمد قوته من حبها .. وأنفاسه من أنفاسها ...
ومع ذلك سألها :
- ألا تشعرين بقوة حبى لكِ ؟ ... لدرجة أننى أحياناً أنسى كينونتى كرجل يرغب فى العيش مع حبيبته وأصبحت لا أعيش إلا حالة الذوبان وعذوبة الإحساس من خلال هدف وقضية أصبحت تجمعنا ، وهذه هى أقصى غاية أطمح إليها
قالت
- بل هى أسمى معانى الحب ، لحظات صدق تغنى الإنسان عن عمر بأكمله بإحساس صادق ... إنه حب شديد الحساسية يسمو بنا لأبعد من ذلك ... وعدنى ألا تكون غير ذلك
قال - لقد أحببتنى كما أحببتك وهذا يكفى ، حتى وإن لم أسمع الإجابة الصريحة منك .. ولكن ماذا بعد
- ما علىّ سوى العمل بجميع الوسائل ..مازال عندى أمل أن ألف العالم لأحاكى قلوب أبناء هذه الأرض الطيبةحتى يعملوا جاهدين للعودة بعيدين عن أحلام اليقظة فى العيش الرغد ..وهم يسرَقون وتُسلَب هويتهم وتضيع أيامهم .. لأنه لابد وأن يأتى يوماً يستيقظ فيه ضمير العالم كله ، ونستعيد همتنا ونقول لأعدائنا ...إرحلوا ...فالأرض لنا ولكنا يجب أن نكون فى حالة استعداد ..ينقصنا الكثير ...إلا أنى أرى بوادر الأمل تلوح لى ...أرى أياماً ستأتى إلينا برياح جديدة محملة بأمطار ستغسل هموم الماضى وتعيد إلينا الأمل فى أن القدس لنا .. وعفواً أنى لن أقول لك كلمة صريحة ، فالحب عندى مساحة كبيرة لكل شىء ، فقد يشمل حبك وحب الوطن و السعى وراء الهدف ... وحب إحياء العالم الحر وحب عودة البسمة إلى كل طفل من بنى وطنى ...و حبى لا ينتهى .... كله عندى مساحة حب ...فدعنى أسعى مجاهدة فى دنيا محبتى ...على أن أحمل ابنتى و أرحل لأبلغ رسالتى ...فهى هدفى وغايتى
ولم يجد فؤاد إلا أن يعزز تلك المسيرة ، فلا شك أنها امرأة تحمل واجباً شرعياً .
وأرسلت "وجدان" رسائل كثيرة إلى كل من تعرفهم من الأسر الراحلة إلى بلاد الشرق و الغرب ... رسائل نصها واحد تقول فيها ....
إخوانى ... أصحاب هذه الأرض الطيبة
تعالوا معى نفتح صفحة الحق لأصحاب الحق .. تعالوا معى نعترف إننا سكتنا و استسلمنا وهاجرنا مرغمين ولكننا كثيراً ما نسينا واتكلنا على أن الحق سيعود بمساعدة الآخرين ..
ولماذا لم نتطلع إلى العودة بكل الطرق ..
بكل السبل
وفضلنا الثراء والراحة فى بعض الأحيان بعيداً عن أرضنا وجذورنا ..
لماذا كونا جذوراً أخرى ، هى ليس لنا وكثيراً نرفض العودة خوفاً من مواجهة الصعاب ..
علينا أنا نسأل أنفسنا لماذا تشتتنا ..
وهم من كتب عليهم الشتات والبغضاء ...
هل لأننا نسينا كلمات الله وفقدنا الثقة فى قوة إيماننا بأننا لابد راجعون ...
لماذ لم نسعى فى العودة كما فعلوا هم سابقاً وثاروا فى الخفاء واشهروا التمرد على العالم .. حتى وجهوا العالم كله لأن يبحث لهم عن وطن ...
نحتاج إلى أن ننقى أنفسنا ونتوجه إلى مأوانا الطيب ...
علينا باللجوء إلى الله ..
فالنصر من عند الله
ولن يغير الله ما بنا إلا إذا غيرنا ما بأنفسنا ..
إنها كانت الرسالة التى دارت بها تسعى تقرب قلب كل فسطينى حر ..
تكتب السيرة الذاتية للهوية الفلسطينية العربية ..
تكتب رسالة حب بكل لغات العالم تدعوهم لأرضها الطيبة
حتى كانت النهاية
فى هذا اليوم المشهود عندما اخترق جسدها النحيل رصاصات مقصودة هوت بها ..
إنها الرصاصة المعدة لكل من له هوية حقيقية وانتماء صادق ..
لكل من له قلب ينبض باسم الله والوطن والحرية ..
وهم يعرفون جيداً الهوية الصادقة من المزيفة
وليتنا نعرف ذلك.
فارقت الحياة فى فرنسا بعد ما نطقت بكلمتين
( القدس ........... فؤاد )
ثم قبضت يديها كأنها تسلم عليهما معاً
فى هذا الوقت كان فؤاد يسير فى شوارع الإسكندرية ، إلا أنه فجأة أحس بوخزة فى قلبه تزامنت مع ضربات الرصاص التى أصابت حبيبته ... فلما نطقت اسمه ...
قال " وجدان "
فلما قبضت يدها ، وضع يده على سُرة التراب وكأنه يسلم عليها ...
فلما فارقت الحياة ترك كل شىء وهرول فى الطرقات
قائلاً بصوت مسموع :
- حيبتى باقية أبداً لن تغيب شمسها ... ستظل بكلماتها وجهادها فى نفوس الناس والأجيال ..
وانهار باكياً والناس تنظر إليه ...
فلما عثر عليه بهاء ..قال له وعيناه تحولتا إلى مضخات من دموع بللت وجهه و ملابسه :
- غربت شمسى يا بهاء اليوم ... اليوم فقط ... إلا أنها ستعود وتشرق غداً على الدنيا كلها وستضفى نوراً وبهاءاً
أيقن بهاء أن "وجدان" قد أصابها ما أصابها ، فقلوب الأحباء لا تخطىء أبداً ...
أجرى بهاء اتصالاته ورحل إلى فرنسا ليعود بالجثمان إلى مصر بعد إلحاح فؤاد المميت
وكان قبرها فى انتظارها ...
مساحة محفورة فى البيت البعيد الذى اشتراه جد فؤاد
والذى دخلاه سوياً مرة واحدة ، والذى أعجبها وتمنيت لو أنها تمتلك مكاناً كهذا تجلس فيه لتتفكر فى هدوء وروية وتتأمل الكون وتناجى صاحب الملكوت ..
وهذه هى المرة الثانية التى يدخله معها ..
ليعيشا مع بعضهما حياة أبدية ...
لقد ترك كل شىء وارتحل إلى هذا العالم ، الذى يجمعهما سوياً فى حياة لا تعرف التفرقة ولا الانفصال الروحانى
جلس إلى قبرها يكتب رسالة لها على لوحة من الحجر يقول فيها :
كونى سيدة قصرك فى الجنة كونى لى فى الثانية قبل الأولى ، أكون جديراًبدنيتى ودينى ، إبنى لى قصور الرحمة والنور واعقدى لى عقود اللؤلؤ لتكللى بها هامتى عندما آتى إليك ..أنثرى لى الرياحين فى كل مكان .. فما أروع ريح الجنة ....فما أحببت إلا أن تكونى سيدة قصرك وقصرى فى الجنة ، لو أراد لنا الله الخلود فيها ، فأنا أراك الآن بهية فى وسط الحور تتناغم حواسك الطاهرة كمعزوفات شديدة الحساسية وتطير مشاعرك حولك كفراشات متغانية فى رقة ووداعة ...
يا سيدة القصر
إنى أراك مع الشهداء والأبرار تعانقين مريم ابنة عمران ، تعملين معها فى عقود اللؤلؤ للشهداء .. أراك تجلسين بجانب الحوض ويداك مع اللآلىء لا تفترقان ..
إنى أرى حولك ما لا يراه الغير حولى ...
فحواسى بك سبقت زمانى بزمان ...
ها أنت تسيرين لتصافحى آسية بنت مزاحم فى بيتها المشهود
....وتدخلين بيتاً من قصب ليس فيه صخب ليحتويك حنان خديجة بنت خويلد .. ..وما طلبتى يا حبيبتى غير لم الشمل والتفاف الجموع فى دنياك ، وها هم الآن اجتمعوا أمامك تسعدين بهم ... فعند الله هى الحياة
سيدة قصرى ... ريحانة عمرى
إنى أجاهد فى الحياة كى ألقاك بعد المماتِ ، غسلت ذنوبى وقمت لله أصلى ليل نهار وضربت فى الأرض بحثاً عن رسالة مقدسة ...وقد اعتكفت على طلب آخرتى لأكون فى ضيافتك الكريمة ... عشت وسأظل أعيش على أملى وأمنيتى فى أن ألقاك
إنه الوعد الحق لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ...
عشت كل يوم أدخر لك مهراً أدخل به جنتك ليكون صداقاً بيننا فى هذا الخلود الجميل .. كل يوم سأناجيك فى السماء .. بأنى إدخرت لك عملاً من أعمالى الطيبة ...
فى أنى نذرت نفسى لله ولجهاد دائم ليزداد مهرك لأتشرف به فى وجودى عند رحابك الطاهر يا جنتى وحبى القادم عبر زمن لن ينتهى أبداً ...
لتسألينى من جنتك وأنا على أرضى ... ماذا ادخرت لى من عمل طيب يرضى الله أقدمه مهراً لمن أحببت حتى فاض حبى عطاءاً على الدنيا كلها ...
إنه جزاء الصالحين يا رحابة الخير يا حبيبتى
إنى الآن لن أحزن عليكِ لأنى أراك تولدين كل يوم فى النعم التى لا تدركها أعيننا ، بل الحزن على من لا يعلم قدر دنيا الله والتى يطلقون عليها إسم الموت الأبدى ... فهى للصالحين الانطلاقة والبهجة والروح والريحان يهيمان فى ملكوته الأعظم ، كل يوم يتجلى عليهم الخالق الكريم سبحانه وتعالى .. يحاضرهم فى مجالس مع الملائكة
ويسمعون حديثاً هو ملىء السمع نوراً غير نورنا ...
لن أحزن يا حبيبتى على الحورية التى تنتظر حبيباً قد أفنى نفسه لتستقبله فاتحة ذراعيها لتقول له ...
أهلاً بك فى قصرك فأنا سيدته ********
فلا أجد إلا قلباً من اللؤلؤ ينبض بنجمات ملونة *****
تشع بهاءاً فى الوجود لتقول إنى أحبك كما أحببتنى منذ زمن
بكل لغات العالم
فها هو قلبى يشع أضواءه********
ليقول لك
إنى أحبك بكل ما هو موجود فى هذا الملكوت
الذى لا يعرف إلا المحبة **

ومن هنا تمر السنوات بعد الرثاء الذى يحمل شوق الحبيب للحيب
وقد بنى سوراً كبيراً ليحمى البيت والقبر وكأنه قلعة ...
تاركاً كل ما لديه لأحمد وحنين
وجاء أحمد وقد أصبح شاباَ يطلب فؤاد للعودة معه إلى الحياة ، فمازال يحتاج إلى أييه ومعلمه ، إلا أن فؤاد قال له :
- الآن يا أحمد عليك أن تحمل الرسالة ..أدها بأمانة ..تزوج حنين وليكن الصداق بينكما هو القضية ولتكن شروط العقد بينكما هى أن لا تنجب غير عربى موحد الهوية .. يحمل سمات الشرفاء والأقوياء وعزة النفس وعلو الهمة ... شديد الانتماء لهويته شديد الالتصاق بها ... حر يأبى التفرقة ..فالوطن واحد والرسالة واحدة والغاية واحدة والأجيال ستتعاقب على هذا النهج وسترث هذه الشروط ......عليك أن تبتكر مدرسة للعهود والمواثيق تحمل راية الانتماء فى كل شىء .....
أما أنا (وقد أمسك بالباب وأغلقه) فبقائى هنا مستمرليس مرتبط بزمن .. بل حياة باقية خالدة هى ملىء السمع نوراً ، وملىء البصر نوراً .. أنعم بالنعيم وأنا فى مكانى ..فى بيت قد يبدو لك خاوياً من بهرجة الحياة إلا أنه يعج بحياة شديدة الحيوية ..هى رقة فى التصور عليها ستار من حياء

كانت هذه آخر كلمات فؤاد ولم يبقى من عبق هذه القصة سوى هذه القلعة الصغيرة التى اترقبها أنا من وقت لآخر

وكلما أخذنى الحنين إلى تذكر هذه الأحداث أذهب إلى المكان .. وألتصق بالباب الحديدى ، وأنظر من التخريمات وأراقب القبر الذى يجمعهما وحفنة التراب الملاصقة للقبر المحفوظة داخل لوحة زجاجية والمكتوب تحتها :

" من الأرض المباركة للطيبين "

وأحياناً يزوغ بصرى فأرى طائف منهما ( فؤاد ووجدان ) يجلسان يتحاوران
فلا أسمع غير همهمات ...
فأمضى مسرعة وأحاول أن أقنع نفسى أن الإيحاء تغلب على حواسى وبصرى ... من يدرىربما تكون رسالة لى من العالم الآخر ****

أمـل فتـحـى عـزت